حول محاولة شاب الانتحار حرقا في شارع بورقيبة: مشهد تونسي دراماتيكي يقودنا الى تراجيديا مذهلة
تونس/المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية
اسماء سحبون (صحفية تونسية)
في الوقت الذي كان فيه نواب البرلمان يستمعون، صباح الاثنين 25 فيفري، الى مروان عبّاس محافظ البنك المركزي في جلسة خُصّصت لمساءلته حول واقع السياسة النقدية للبنك خاصة إثر قرار الترفيع في نسبة الفائدة المديرية بمئة نقطة كان شاب تونسي يبلغ من العمر 26 سنة يسكب البنزين على جسده في ساحة 14 جانفي في شارع الحبيب بورقيبة محاولا الانتحار حرقا تحت تأثير وضعه النفسي والاقتصادي والاجتماعي المحبط.
ولئن نجحت فرق الامن والحماية المدنية في إنقاذ الشاب من نفسه وإحباط محاولة الانتحار فإنّ مداولات البرلمان لم تؤدّي الى تغيّر في وضع السياسة النقدية التي ينتهجها عبّاس وفريقه في محاولة لمسايرة الخط الخاطئ للسياسات الاقتصادية المنتهجة من قبل الحكومة.
مؤشرات سلبية
لم يخف مروان عباس مخاوف البنك المركزي من تواصل ارتفاع نسبة التضخم لتصل الى 8 بالمئة خلال العام الجاري والسنة القادمة “ما لم يتم اتخاذ القرارات العاجلة” للحد من التضخم على حد قوله والترفيع في نسبة الفائدة المديرية بـ100 نقطة كاملة لترتفع النسبة من 6.75 بالمئة الى 7.75 بالمئة كانت ردة فعل “طبيعية” للحد من ارتفاع نسبة التضخم املا في ان تكون دون 7 بالمئة مع نهاية العام الجاري.
وكان قرار البنك المركزي قد اثار حملة انتقادات واسعة في صفوف مستخدمي موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك تعبّر عن مخاوف حقيقية من تزايد قيمة الاداءات الموظفة على القروض البنكية. وهي ذات المخاوف التي تبنتها المنظمات الوطنية وترجمتها وزارة المالية في بلاغ يستثني من تحصلوا على قروض سكنية قبل غرة جانفي من أي توظيفات جديدة بسبب الترفيع في نسبة الفائدة المديرية. ولم يتبقى لمن هم دون مساكن سوى التمسّك بمخاوفهم فالغد لا يبدو على قدر من الامل الذي يسمح بامتلاك مسكن تجاه ارتفاع الاداءات الموظفة على القروض السكنية وتجاه تأزّم الوضع في سوق العقارات مع تواصل ارتفاع اسعار المساكن.
مشهد دراماتيكي تصارعه البلاد وتزداد قوته سنة بعد اخرى منذ هروب الرئيس الاسبق بن علي يوم 14 جانفي 2011. فجميع المؤشرات الاقتصادية سلبيّة رغم التحسّن الطفيف في صادرات المنتوجات الفلاحية مثل زيت الزيتون. إلا ان الدينار ما يزال يواصل انزلاقه امام العملتين الرئيستين في سوق الصرف لتفوق قيمة الدولار 3 دنانير وتكاد قيمة الاورو تستقر في 3.5 دينار. وتشير الارقام الرسمية الى تفاقم في العجز التجاري منذ 2014 إذ ارتفع العجز في الميزان التجاري بمقدار ملياري دينار في سنة واحدة.
وضع اثمر تضخّما في نسبة التداين ناهزت 73 بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي لتنتقل تونس الى مراتب متدنية في تصنيف الترقيم السيادي الذي تسنده الوكالات الدولية لتصنيف المخاطر ومنها وكالة التصنيف المالي الدولية “فيتش رايتنغ” والتي اكدت منتصف فيفري الجاري ان تونس تحتل المرتبة الرابعة في الشرق الاوسط وشمال افريقيا بعد لبنان وليبيا وغزة من حيث عجز الميزان التجاري ومستوى توسعه من سنة الى اخر.
وتوقعت “فيتش رايتنغ” ان تكون السنة المقبلة سنة تراجع النمو الاقتصادي وتوظيف مزيد الضرائب ومزيد من التداين لدعم موارد ميزانية الدولة. إذن نحن أمام مؤشرات توحي بسنة صعبة ستعقب سنة انتخابية رافقها قانون مالية دون توظيفات ضريبية.
غياب مناخ الثقة
هذه المرحلة الجديدة التي تنفتح عليها البلاد بعد مضي عشريّة اولى للثورة لا تنبؤ المؤشرات السياسية بانها قد تكون مختلفة عمّا سبق فالأحزاب الحاكمة منذ 2011 وتلك المترددة على الحكم طبقا لمناخ التوافقات لم تنجح في تحقيق النمو الاقتصادي المطلوب وعجزت عن خلق مناخ من الثقة من شانه ان يجلب المستثمرين وخاصة منهم الاجانب وذلك بسبب تزايد نشاط التهريب والفساد والرشوة رغم ان مكافحة الفساد كان من اولى الشعارات التي نادى بها المحتجون في الثورة.
كما لم تمتلك تلك الاحزاب البرنامج الاقتصادي الوطني ولم تبادر بمراجعة منوال التنمية الذي كان يعتمده بن علي واثبت عدم نجاعته في التشغيل ومحدوديته في تحقيق نسبة نمو مرتفعة وبالتالي استمرار ذات الخيارات الاقتصادية التي ادت الى تأزم الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية في تونس خلال السنوات الاخيرة تحت نظام حكم بن علي.
لا شيء تغيّر هذا ما يستشعره التونسيون بل إن اوضاعهم الاقتصادية تسير نحو مزيد من الانهيار بانهيار قدراتهم الشرائية ومزيد ارتفاع الاسعار وعجزهم عن تحقيق الحد الادنى من حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والحصول على الخدمات الاساسية. وهذا طبعا هو الحصيلة المنطقية للأداء الاقتصادي للأحزاب المتداولة على الحكم منذ 2011 والتي هي ذاتها من سيترشح بوعود انتخابية جديدة في الانتخابات العامة المقرر تنظيمها نهاية العام وقد تكون نتيجة التصويت لصالحها رغم خياراتها الاقتصادية الفاشلة. نحن إذن أمام مشهد تونسي معقّد شبيه بذلك المشهد الدراماتيكي الذي كان فيه شاب تونسي يبحث عن حل ينهي به عذابات حياته وكان البرلمان، وأغلبهم نوّاب الاحزاب الحاكمة التي لا تمتلك برنامج انقاذ اقتصادي واجتماعي، يسائلون محافظ البنك المركزي الذي ينفّذ سياسة نقديّة تحاول مسايرة أخطاء السياسة الاقتصادية للحكومة لتخفيف الصدمات على الاقتصاد التونسي.
هذا المشهد الدراماتيكي قد يكون ككرة الثلج يكبر كلّما تدحرج نحو السنة الجديدة التي ستكون فاتحة لخماسيّة جديدة لا أحد سيحاسب فيها من يحكمون حول الحصيلة الهزيلة لأدائها تماما كما حصل من 2015 الى 2019. دراماتيكا مذهلة انتهينا إليها في ديمقراطيّة ملغومة تحقّق فيها الجانب السياسي وتوقّف فيها ماهو اقتصادي واجتماعي وهو طريق لن يقودنا سوى الى تراجيديا مذهلة.