اشكاليات القطاع الواحي في الجنوب التونسي: حزام قفصة الاخضر في قبضة التغيرات المناخية !
رحاب مبروكي (فرع الحوض المنجمي للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية)
تصارع واحات قفصة من أجل الصمود أمام التحديات التي تواجهها إذ يعاني القطاع الواحي في هذه الجهة عدة إشكاليات أهمها التأثير السلبي للتغيرات المناخية وما إنجرّ عنها من تتالي سنوات الجفاف. ويرجع هذا الجفاف إلى ندرة الأمطار واستنزاف الموارد المائية ، وما ينجر عنه من إرتفاع ملوحة المياه والتربة. كما يعد الزحف العمراني والتلوث الناتج عن الأنشطة الصناعية والمنوال الزراعي المعتمد والمتمثل في الزراعة الأحادية من العوامل التي ساهمت في زيادة حدّة المخاطر التي تعترض هذا القطاع.
في هذا التقرير لقسم العدالة البيئية بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية نسلط الضوء على أهم الخصائص التي تميز واحة قفصة فضلا عن ابعادها البيئية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية، إضافة الى تأثير التغيرات المناخية على مردوديتها الاقتصادية.
واحة متعددة الطبقات بقفصه [1]
واحة قفصة: ارث بيئي وإنساني
تمسح واحات قفصة قرابة 3000 هك، ما يمثل 5% من المساحة الجملية للواحات بكامل البلاد التونسية. وهي واحات قديمة قدم التاريخ حتى أن واحة قفصة أدرجت من قبل منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة كإرث فلاحي وجب المحافظة عليه للأجيال القادمة. ويعود هذا لثراء المخزون المادي واللامادي من تنوع بيولوجي وأهميته في تحقيق الأمن الغذائي بالمنطقة وكذلك الاستخدام المحكم للتربة وترشيد استهلاك الماء، حسب ما أفادنا به الدكتور المهندس الزراعي والباحث المتخصص في الجغرافيا الريفية نور الدين نصر .
وتتميز ولاية قفصة بالواحات القارية التي تتركز في معتمديات قفصه الجنوبية والقصر والقطار لتشكل حزاما يحمي البيئة ويمنع تقدم الصحراء. كما أنها تضم آلاف أشجار الزيتون والكروم والنخيل. وقد أصبحت الزراعة ممكنة في هذه الواحات منذ عقود بفضل الموارد المائية وجودة التربة بالمنطقة. وتبقى الخاصية التي تميز واحة قفصة دون غيرها هي ارتباطها بالمدن (agriculture urbaine) مع إدماج تربية الماشية. وهي بالأساس فلاحة عائلية تعتمد على الممارسات الفلاحية الأيكولوجية (Agroécologie).كما يعتبر تنظيم الزراعة المعتمد بها منذ القدم “متعدد الطبقات” حيث يعكس محافظة ساكنيها على المنظومة التقليدية الواحية. وتنقسم بموجب هذا التنظيم الزراعات الى ثلاثة مستويات ادناها الحبوب والخضروات في الطبقة الأولى. وفي المستوى الثاني، تزرع أشجار مثمرة مثل الزيتون والمشمش، بما في ذلك الأصناف المتوطنة. أما الطبقة العليا فتتكون من نخيل التمر الذي يوفر الظل بمستويات أقل[2].
يعتبر نظام الواحات نظاما إيكولوجيا يتجلى دوره البيئي في مقاومة التصحر وتحقيق التوازن الايكولوجي والمحافظة على التنوع البيولوجي داخل الأوساط الصحراوية إضافة إلى توفير الأوكسيجين للمدن والمناطق المجاورة لها. ولواحة قفصة أيضا دور اقتصادي يتجلى عبر مواطن الشغل التي توفرها ومن خلال تعزيز الأمن الغذائي بالنظر إلى المرابيح التي يحققها إنتاج التمور التي تمثل كذلك غذاءا صحيا ومأمونا لأهالي المنطقة. إلا ان هذا القطاع يواجه عددا من التحديات التي تمثل حاجزا يحول دون تحقيقه للتقدّم والتنمية .
ادماج تربية الماشية داخل واحات قفصة[3]
ثروة مهددة بالاندثار بسبب التغيرات المناخية
هذه النظم البيئية التي كانت ذات يوم خصبة و لا تزال تشكل أرخبيلًا من المساحات الخضراء تقف اليوم عاجزة عن مقاومة التحديات البيئية والبشرية. و تعد واحة قفصة من بين المناطق المتضررة من تأثيرات التغيرات المناخية التي باتت تهددها على نحو متزايد.ونظرا لكل هذه العوامل الضارة التي تعاني منها فقد تراجع معدل الانتاجية بها بشكل ملحوظ، حيث أثّر نقص المياه على ثراء المنتوج الواحي وأصبحت الواحات ذات الطبقة الواحدة منتشرة بشكل كثيف. إضافة إلى ذلك وجب تسليط الضوء على أشكال التدهور المتزايد الذي عرفته هذه المناطق الواحية بسبب الاستغلال المفرط واللاعقلاني للموارد المائية التي تتعرض الى ضغوط هائلة بسبب تراجع معدل هطول الأمطار و إرتفاع درجات الحرارة نتيجة تسارع وتيرة التغيرات المناخية. هذا إلى جانب الضغط الديمغرافي الذي ساهم في زيادة التوسع العمراني وما صاحبه من بناء فوضوي على حساب المساحات الواحية. كما لا يمكن التغاضي عن معضلة تفتيت المزارع وتدني مساحة المستغلات بسبب الميراث، زيادة على فقدان القيمة التجارية للأنواع والأصناف المزروعة من التمور خاصة مع ظهور أنواع جديدة أكثر تجارية وإرهاق التربة وتملحها.
في شهر أفريل 2012 أصدرت وزارة البيئة والوكالة الألمانية للتعاون الدولي كتيَبا يهتم بتأثير التغيَرات المناخية على الواحات التونسية وذلك في إطار مشروع التعاون التونسي الألماني حول دعم تنفيذ إتفاقية الأمم المتحدة المتعلقة بالتغيَرات المناخية[4]. وتتوقع نتائج الدراسات الاستشرافية حول التغيرات المناخية أن الجنوب التونسي سيتأثر بشدة من التغيَرات المناخية وتشير التوقعات الى ارتفاع درجات الحرارة بمعدل 1.9 درجة مئوية في آفاق 2030 و بمعدل2.7 درجة مئوية بأفق 2050 فيما ينتظر أن تشهد الأمطار نقصا بمعدل 9 بالمائة سنة 2030 وبمعدل 17 بالمائة سنة 2050. ومن الأرجح أن يكون تأثر الواحات التونسية بالتغيرات المناخية شديدا خاصة فيما سينجر عن ذلك من استنزاف الموارد المائية الباطنية وما سيصاحبه من تسارع هبوط مناسيب المياه الجوفية وتدهور جودتها وارتفاع تكلفة الضخ.
وبحسب ما كشفته سماح بن شعبان-باحثة متخصصة في البيولوجيا وعلم الحشرات- فإن تزايد المعدلات القياسية لدرجات الحرارة بفعل تغير المناخ أدى الى ظهور افات زراعية مثل “عنكبوت الغبار”. وهو كائن يميل الى العيش بالمناطق الجافة حيث تناسبه درجات الحرارة المرتفعة. وأضافت انه كان يعيش داخل أشجار النخيل المهملة قبل سنوات. لكن تزايد درجات الحرارة ونقص المياه والرطوبة ساعده على الظهور وجعل نشاطه يبسط هيمنته أيضا على اشجار النخيل المنتجة من اواخر موسم الربيع (بداية من شهر ماي) الى بداية الموسم الصيفي. هذا وقد تم رصده سنة 2019 في أكثر من واحة قديمة اعتبارا وانه كان مقتصرا على عدد قليل من الواحات الحديثة والمهملة.
التوجه نحو تدعيم التصدير: هل زادت سياسة الدولة في تدمير القطاع الواحي ؟
لا تزال الواحة تمثل مصدرًا مهمًا للدخل للمزارعين في المنطقة. لكن وبسبب سياسة الدولة القائمة على تدعيم التصدير أصبح التنوع البيولوجي واستدامة النظام مهددين. فالإخفاقات المؤسسية والقانونية والتنظيمية التي وقعت فيها الدولة تعيق على نحو متزايد الإدارة الرشيدة لهذا النظام الفلاحي. وقد عملت الدولة منذ سنوات على تشجيع زراعة الدقلة من صنف نور لغايات ربحية متعلقة بالتصدير الخارجي. ونظرا إلى أن هذه الأخيرة تستهلك كميات هائلة من المياه كما انها اكثر عرضة للأمراض من الاصناف الاخرى فإنه أصبح من الضروري على الدولة اليوم مراجعة سياساتها في القطاع الواحي واعتماد إستراتيجيات جديدة تعود بالنفع الاقتصادي وتحافظ على التوازن البيئي في الآن نفسه.
أفضل الممارسات من اجل النهوض بالقطاع الواحي
يحتاج الوضع الحالي لقطاع الواحات الى دعم المنظومات ذات الطبقات المتعددة، حيث بينت الدراسات صمودها وقدرتها على مقاومة التغيرات المناخية مقارنة بالواحات الحديثة التي تعتمد على النخيل من صنف دقلة نور فقط حسب ما أكده لنا نور الدين نصر. كما وجب اتباع الري الذكي الذي يقدم لشجرة النخيل ومختلف الزراعات في الواحة الكمية التي تحتاجها من الماء دون نقصان او تبذير وذلك في كل مرحلة من مراحل دورتها الحياتية.
من جهته دعا المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية خلال المنتدى الجهوي للعدالة البيئية بقفصة لسنة 2021 الى ضرورة تفعيل القوانين والتشريعات الخاصة بالقطاع الواحي وخاصة منها قانون الاهمال وتكثيف الرقابة على البناء الفوضوي داخل الاراضي الفلاحية والتصدي للزحف العمراني على حساب المساحات الواحية. هذا إلى جانب التوجه نحو زراعة انواع التمور التي لا تستهلك كميات كبيرة من المياه والحفاظ على اهم عنصر في الواحة وهو التربة عبر التصدي لكافة الممارسات التي تؤدي الى تدميرها مثل التلوث الصناعي والغازات السامة التي تطلقها المؤسسات المختصة في الصناعات الاستخراجية على غرار شركة فسفاط قفصة والمجمع الكيميائي فضلا عن وجوبية الرجوع الى اعتماد منوال الواحات القديمة القادرة على التأقلم مع التغيرات المناخية.
ويطالب المدافعون عن الشأن البيئي ايضا بتفعيل بنود الميثاق الوطني لحماية وتنمية الواحات[5] بالجمهورية التونسية والذي تم تحريره من طرف كل من منظمة الامم المتحدة للأغذية والزراعة، الصندوق العالمي للبيئة وجمعية صيانة مدينة قفصة. ويتمثل هذا الميثاق في اعلان وطني يهدف الى الاعتراف بالمنظومة الواحية وبأبعادها البيئية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
ازاء هذه التحديات لا بد على البلاد التونسية أن تتبنى رؤية للتنمية المستدامة من أجل حماية الثروة الواحية مع ضرورة ضبط اتجاه محدد وطويل المدى يمكنها من تحقيق هذه الرؤية وبلورة استراتيجيات لتنفيذها. كما يجب التشديد على ضرورة البحث عن بدائل حقيقية لمساعدة الفلاحين على مواجهة التحديات التي يطرحها النشاط الزراعي داخل الواحات وعلى التكيف مع التغيرات المناخية وذلك من اجل تحقيق التنمية ومقاومة اثار التلوث مع الحفاظ على الموارد الطبيعية و ضمان استدامتها بدلا من استنزافها.
[1] https://www.fao.org/giahs/giahsaroundtheworld/designated-sites/near-east-and-north-africa/gafsa-oases/fr/
[2]https://www.fao.org/giahs/giahsaroundtheworld/designated-sites/near-east-and-north-africa/gafsa-oases/fr/
[3] https://www.fao.org/giahs/giahsaroundtheworld/designated-sites/near-east-and-north-africa/gafsa-oases/fr/
[4] http://eauasis.blogspot.com/2013/04/blog-post.html
[5] http://www.environnement.gov.tn/images/fichiers/projets_acheves/GDEO/charte_oasis_Tunisie_FR.pdf