ملولة حكاية قرية تقاوم التغيرات المناخية
مالك الزغدودي: صحفي وباحث تونسي مهتم بقضايا البيئة وحقوق الإنسان
الملخّص:
يهدف هذا المقال إلى رصد طرق الصيد الساحلي التقليدي بطبرقة، تحديدا قرية ملولة وهي قرية بحرية أغلب سكانها بحارة لا يتجاوز عددهم 30 بحارا.
يهدف البحث للتعرف على طرق الصيد التقليدية المتوارثة وفعاليتها في الحفاظ على المحيط والثروة السمكية والمرجان البحري المشهورة به مدينة طبرقة. ويفسر المقال البحثي أيضا التمازج بين الغابة واستعمال الفلين [1] مع الشباك ومحاولة مجمع الصيد الحفاظ على هذه الطرق.
نحاول أيضا رصد طرق الصيد التقليدية الأخرى: بالصنارة / الغوص أو الغطس الطبيعي (ميزة للصيادين والسماكين بمنطقة ملولة) عبر السهم المضغوط.
إذن نحاول في هذا المقال إضافة إلى رصد طرق الصيد الساحلي التقليدية، دراسة مجهودات البحارة من أجل تأسيس بديل اقتصادي ناحع ويحافظ على البيئة والموروث الفلاحي والبحري في الآن ذاته.
سوف نرصد في هذا المقال طرق الصيد الساحلي التقليدي التي يستعملها بحارة ملولة، وكيف تساهم في الحفاظ على تقنيات الصيد التقليدية وحماية البيئة البحرية للمنطقة والمردودية الاقتصادية للصيد في الآن ذاته؟
مصطلحات رئيسية: البحّارة، الصيد التقليدي، التراث البحري، التراث المادي واللامادي، ملولة، طبرقة
منهجية وتقنية البحث
اعتمدت في هذه الورقة البحثية على مقابلات نصف موجهة[2] مع عشرة بحارة من قرية ملولة، يجمع بينهم نشاط ممارسة الصيد الساحلي التقليدي، لكنهم يختلفون في تقنيات الصيد والمستوى التعليمي وسنوات الخبرة. كما يتفقون جميعا على الحفاظ على تقنيات الصيد الساحلي التقليدية الخاصة بمنطقة طبرقة عموما وقرية ملولة خصوصا.
كانت العينة متمثلة في عشر بحّارة مختصين في الصيد الساحلي التقليدي، أربعة منهم يعملون ضمن مجمع بحارة الصيد الساحلي التقليدي أما باقي البحارة فهم غير منخرطين في المجمع لكنهم يمارسون الصيد التقليدي ويبيعون القسم الأكبر من صيدهم من الأسماك إلى المجمع المهني لتعليب الأسماك في ملولة.
خصائص عيّنة البحّارة
الرقم | العمر | طريقة الصيد | سنوات الخبرة | المستوى التعليمي | الحالة الاجتماعية |
01 | 53 | الغزل (الشبكة) | 37 | ابتدائي | متزوّج |
02 | 28 | صنارة | 5 | ثانوي | متزوج |
03 | 44 | الغزل (الشبكة) | 23 | ابتدائي | متزوّج |
04 | 21 | الغزل (الشبكة) | 4 | اعدادي | أعزب |
05 | 21 | الغزل (الشبكة) | 4 | اعدادي | أعزب |
06 | 36 | الغزل (الشبكة) | 17 | أمّي | متزوج |
07 | 31 | صنارة | 8 | ثانوي | متزوج |
08 | 38 | صنارة + غزل | 20 | ابتدائي | متزوج |
09 | 64 | الغزل (الشبكة) | 50 | أمي | متزوج |
10 | 16 | الغزل (الشبكة) | 2 | ابتدائي | أعزب |
- وضعية قطاع الصيد الساحلي التقليدي في تونس
يمتد الشريط الساحلي في البلاد التونسية على طول 1300 كلم أي ما يعادل 810 ميل على البحر الأبيض المتوسط، وتمتلك تونس حدودا بحرية مع كل من الجزائر وليبيا وإيطاليا.
يشتغل في هذا القطاع حوالي 108 آلاف[3] تونسي منهم 54 ألفا بصفة غير مباشرة ويساهم الصيد البحري بنسبة 8 بالمائة من قيمة إنتاج القطاع الفلاحي و17 بالمائة من عائدات الصّادرات الفلاحية الغذائية.
هذه الأهمية الاقتصادية والاجتماعية للصيد البحري، من حيث قدرته التشغيلية المرتفعة ونسبة مساهمته في الصادرات الفلاحية الغذائية، وبالتالي التدفقات من العملة الصعبة ليس الميزة الوحيدة لهذا النشاط لأنه يعد نشاطا موروثا بالنسبة للتونسيين عبر التاريخ مارسوه منذ فجر التاريخ وبالتالي يمتلك البحارة أو الصيادة التونسيين تراثا ماديا ولا ماديا في علاقة بالصيد البحري وتقنياته وكل العوالم المتعلقة به وتعد مدونة الصيد البحري في تونس سواء الرسمية أو غير الرسمية (الشعبية) غنية بقصص البحر والبحارة.
يختلف نشاط الصيد البحري من منطقة إلى أخرى بحكم تغير عديد العوامل الطبيعية والجغرافية والمناخية وتوزع السكان (الكثافة السكانية) وأنواع الأسماك أو القشريات أو غلال البحر.. كما تختلف مكانة الصيد البحري في النسيج الاقتصادي من منطقة الى أخرى. فمثلا في جزيرة قرقنة يعد الصيد البحري هو النشاط الاقتصادي المهمين والأساسي وبالتالي تميزت المدينة بمُدونة فريدة في علاقة بالصيد البحري أو تقسيم البحر وملكيته وتوارثه[4] وخلق معايير قيس خاصة بالجزيرة لا توجد في أي منطقة أخرى من العالم… وتوجد على طول السواحل التونسية المختلفة من حيث المنتوجات البحرية (قرى الساحل في المنستير وسوسة وقرى ومدن الشمال بنزرت، رأس الجبل الهوارية، قرقنة … وصولا لشط بوغرارة وجرجيس وجربة …). هذا التنوع خلق طرق صيد تقليدية متنوعة وأغاني صيد مختلفة وأكلات بحرية متعددة بل وتسميات أسماك مختلفة جذريا أحيانا لا فقط بين شمال البلاد وجنوبها بل أحيانا بين قرية بحرية وقرية بحرية أخرى قريبة منها وذلك راجع في جزء كبير منه الى التأثير الثقافي لفترة الاستعمار الفرنسي بالإضافة الى تلاقح الثقافة المحلية مع ثقافات أخرى كالإيطالية. فمثلا منطقة طبرقة أغلب تسميات الأسماك إيطالية بحكم التمازج الثقافي والتاريخي الكبير مع البحارة الإيطاليين الذين سكنوا جالطة أو مارسوا الصيد في طبرقة قبل وبعد الاستقلال وبين بحارة سيدي مشرق وهي قرية محاذية لطبرقة حيث توجد أسماء فرنسية بحكم أن أحد أول الرُياس (قبطان سفينة) وصاحب أول مركب صيد في المنطقة كان فرنسيا … وبالتالي تمازجت عديد الثقافات المتعلقة بالصيد البحري وأثرت في ثقافة البحارة التونسيين وهذا الحال في قرية ملولة البحرية التابعة إداريا لمدينة طبرقة من ولاية جندوبة وهي ثاني أكبر معبر حدودي بالبلاد التونسية رابط بين تونس والجزائر .
- تقديم منطقة ملولة
منطقة ملولة هي قرية ساحلية وجبلية في الآن ذاته تقع في أعالي سلسلة جبال خمير (الأطلس الصغير) على ساحل البحر الأبيض المتوسط وهي قرية حدودية تربط بين تونس والجزائر تضم في حدود 450 مسكنا يسكنها قرابة 1300 سكنا ويعمل بها حوالي 30 بحارا. يوجد بها ميناء صيد تقليدي صغير مهيأ لاستقبال مراكب صيد تقليدية وأنشطة ترفيهية يتمتع بها زوار المنطقة بالإضافة الى مطاعم بحرية تقليدية ومقهى.
مارس سكان منطقة ملولة الصيد منذ أجيال حيث حدثنا عماد وهو الممثل القانوني لمجمع الصيد البحري التقليدي الساحلي بطبرقة أن بداية الصيد البحري كان من ثلاثينات القرن العشرين من خلال مراكب صيد تقليدية دون محرك من خلال التجديف وكانت التقنيات حسب ما يتذكره محدثنا من خلال الروايات التي وصلته من بحارة المنطقة أساسا الشباك والصيد العائمة والغاطسة والصنارة.
- تجربة مجمع الصيد البحري التقليدي
تأسس مجمع الصيد البحري التقليدي في 22 جويلية 2019 ويضم 60 بحارا ينشطون في مجال الصيد الساحلي التقليدي. يتراوح طول قوارب الصيد بين 3 إلى سبعة متر ويلتزم بحارة المجمع بالحفاظ على النظم البيئة المحلية واحترام الراحة البيولوجية وكافة القوانين المنظمة للصيد الساحلي التقليدي، ويستعمل البحارة أيضا مراكبهم في توفير رحلات صيد ترفيهي عبر الصنارة لهوات الصيد أو من يرغب في خوض نزهة بحرية خاصة في فصل الصيف. ويضم المجمع 13 بحارا من قرية ملولة قمنا بإجراء مقابلات نصف موجهة مع 10 منهم من أجل التعرف على طرق الصيد الساحلي التقليدي، وتأثير التغيرات المناخية وطريقة بيع ما يصطادونه سواء في الميناء أو للمجمع المهني المشترك في ملولة.
- طرق الصيد الساحلي التقليدي التي يستعملها بحارة ملولة
بورتريه بحار صيد تقليدي
عم علي 64 سنة بحار أبا عن جد مثلما عرّف نفسه خبرة تتجاوز الأربعين عاما بقليل، قضى أكثر من نصفها كصياد ساحلي تقليدي. يؤكد العم علي أن الصيد الساحلي التقليدي لا يوفر دخلا مستقرا مقارنة بالعمل كبحار على مراكب صيد مياه الأعماق لكنه بالمقابل يوفر الاستقلالية ويجنب الكثير من أهوال البحار. يؤكد لنا محدثنا أن طرق الصيد البحري في منطقة طبرقة وصولا إلى سيدي مشرق (تتبع ولاية باجة إداريا) متشابهة وأن أغلب الطرق متوارثة من الأب إلى الإبن وهي أساسا الصيد بالغزل (الشباك) العائمة أو الطافية على سطح الماء ولكل طريقة غرض. ويفسر” عم علي” أن البحارة في طبرقة كانوا يستعملون مادة الفلين (الڨشر باللهجة المحلية لسكان جبال خمير: طبرقة، عين دراهم) وهو لحاء شجرة البلوط لجعل الشبكة تطفوا قبل أن يدخل البلاستيك ويؤكد أنه سعيد لأنه منذ تأسيس مجمع الصيد البحري هناك عودة كبيرة من البحارة سواء ضمن المجمع أو خارجه لاستعمال مادة الفلين.
يصر العم علي أيضا أنه كان غطاسا بارعا يصطاد القرنيط بالسهام المضغوطة تحت الماء (fusée de pêche) وأن طبرقة وتحديدا ملولة كانت جنة للسمك الصغير خاصة المناني المهدد بالانقراض اليوم والقرنيط حيث كان يغطس من أجل صيد هذه الأنواع تحديدا، ويوضح أن أغلب بحارة المنطقة تعلموا تقنيات الصيد بالسهام المضغوطة تحت الماء من السياح الفرنسيين والايطاليين من ثم تمرسوا فيها طيلة عقود.
ورث العم علي مهارات الصيد وصيانة قاربه الصغير (7 متر) وبعض تقنيات صيانة المحرك الصغير لابنه وأدخل نشاط الصيد الترفيهي والنزهات البحرية إلى جدول نشاطه من أجل تحسين مدخوله ومقاومة تغيرات المناخ التي أدت إلى نقص فادح في مردودية الصيد حسب قوله “لم يكف حريق الغابة أعتقد أن البحر أيضا تعرض للحرق، لم ينج من البشر لا الغابة ولا البحر”.
يتراوح مدخول العم علي وإبنه بين 500 إلى 2000 د شهريا حسب الفصل وعوامل الطقس ونوعية السمك والأنشطة الممارسة حينها.
وتؤكد آمنة بالكحلة في دراستها الاستقصائية المنجزة مع المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بعنوان: “دراسة حول صغار البحارة[5] ووضعية الصيد الساحلي في جرجيس وقرقنة وطبلبة” أن قطاع الصيد البحري يعاني في الواقع من عديد الصعوبات، على غرار تقلص الثروة السمكية بشكل متزايد، وضعف كفاءة ومردود الصيادين (ضعف التأطير)، إضافة إلى هشاشة البنية التحتية الأساسية (استلام وتوزيع المنتجات). ونتيجة لذلك، يتسم وضع صيادي الأسماك التقليديين بالهشاشة وتعيش هذه الفئة المجتمعية في تونس ظروفا اقتصادية واجتماعية صعبة ولعل أكثر الصيادين تأثرا بهذه المصاعب هم صيادو مناطق قرقنة وجرجيس وطبلبة إذ أن 70 الى 80% من وحدات الصيد البحري توجد بمنطقة خليج قابس. وهنا نلاحظ أن نفس الدروف والصعوبات التي ذكرتها بالكحلة في دراستها، هي ما يمر به بحارة طبرقة اليوم ولم تتحرك السلطات المعنية وتغير شيئا إلى حد ساعة كتابة هذا المقال
- الحفاظ على تقنيات الصيد التقليدية
يؤكد عماد التريكي وهو الممثل القانوني لمجمع الصيد التقليدي بطبرقة وأصيل منطقة ملولة أن ملولة تحوز على تراث بحري هام إضافة إلى رصيد مهم من تقنيات الصيد المميزة سواء التي يستعملها بحارة المجمع أو بحارة ملولة عموما مثل الصيد بالشباك العائمة والطافية من خلال مادة الفلين وهو نتيجة مزج منتجات الغابة المنتجة محليا من جبال خمير ونشاط الصيد الساحلي وأيضا استعمال الخشب المحلي في صناعة السفن أو الصيد من خلال الغوص الذي لا يمارسه بحارة المجمع لكنه ممارس من أغلب بحارة ملولة. ويؤكد عماد أيضا على تنوع الأسماك التي يصطادونها حسب الفصول أو المتوفرة طيلة السنة وهي أساسا لا تخرج عن هذه الأنواع الآتي ذكرها (التسميات حسب المعجم المحلي لبحارة ملولة) : شلبة ( تريليا / بلاميط / ڨڨدانسي / مرجان / باقري / جغالي / ملبري / أورطا / قاروص/ قراض /سار / شليمونة / خطيف / مسلة /طنودة .. .
وتعتبر أغلب هذه الأنواع قابلة للتثمين عن طريق تعليبها من قبل النساء العاملات في المجمع المهني المشترك، وهو ما خلق رابطا من التعاون بين مجتمع البحارة عموما وخاصة بحارة مجمع الصيد التقليدي وعاملات المجمع المهني المشترك لتعليب الأسماك.
وفي علاقة بسؤالنا حول جدوى ونجاعة استعمال طرق الصيد التقليدية في تحسين وضعية البحارة المادية، أكد عماد أنه بعد التخلي عن عديد طرق الصيد الضارة وتقليل استعمال البلاستيك وتنظيف البحر والشاطئ والميناء التقليدي في أخر ثلاثة سنوات بدأت الأمور تتحسن بشكل طفيف. أما في علاقة بالمداخيل فقد فسر محدثنا أن تواجد البحارة في إطار قانوني سهل لهم الحصول على رخص نقل الشغوفين بالصيد التقليدي أو النزهات البحرية وهذا حسن بعض الشيء من وضعيتهم المادية، إضافة إلى وجود زبون دائم للأسماك وبأسعار مجزية للبحارة من خلال تقنية البيع المباشر بلا وسطاء وهو المجمع المهني المشترك لتعليب الأسماك.
أما في علاقة بالموروث التقني أو اللامادي للصيد البحري في ملولة وضح التريكي أنه كان من المخطط تأسيس مهرجان البحر في ملولة من أجل تثمين هذا التراث ولكن الحرائق الأخيرة أجلت المشروع.
صورة عماد التريكي الممثل القانوني لمجمع الصيد البحري التقليدي بطبرقة. المكان الميناء التقليدي ملولة.
خاتمة
تعتبر تجربة بحارة ملولة في تأسيس مجمع مهني للصيد التقليدي وانفتاح البحارة على أنشطة اقتصادية أخرى مثل الصيد الترفيهي أو تقديم نزهات بحرية قد حسن من ظروفهم الاقتصادية بشكل مباشر، وحافظ على مهنة الصيد الساحلي التقليدي التي كان يهجرها الشباب بسبب ضعف مداخيلها أساسا والنقص الفادح في الثروة السمكية بسبب التغيرات المناخية. كما مكنت العودة الى بعض التقنيات التقليدية مثل استعمال الفلين والتخلي عن البلاستيك والعودة للتجذيف مكان المحرك الذي يعمل بالوقود من خلق تحسن ملحوظ في توفر الأسماك التي كانت تتأثر بتلوث المنظومة البحرية جراء تقنيات الصيد الغير مستدامة.
[1] الفلين (الخفاف) مادة تقليدية للحفاظ على الشباك طافية وتحديد مناطق الصيد
[2] متى بدأت في الصيد الساحلي التقليدي/ المجمع المهني لتعليب الأسماك؟
ما هي دوافع توجهك إلى العمل بالبحر / بالمجمع المهني لتعليب الأسماك؟
ما هي أهم طرق الصيد التقليدية المستعملة في ملولة؟
كيف كان تأثير استعمال طرق الصيد الساحلي التقليدي على مختلف جوانب عملك؟
[3] أرقام المعهد الوطني للإحصاء 2022
[5]المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. دراسة حول صغار البحارة ووضعية الصيد الساحلي في جرجيس وقرقنة وطبلبة. دراسة من انجاز آمنة بن كحلة / تأطير امال ساسي تمر