فيضانات نابل
لا ينفع الغيث فيما أفسده منوال التنمية
هيثم قاسمي (قسم العدالة البيئية والمناخية بالمنتدى)
يبدو أن السنين العجاف قد ولت وأعقبت خلفها سنينا سمانا. سنينا تغرق الجنوب الشرقي ذات نوفمبر 2017 والشمال الشرقي ذات سبتمبر 2018. ولو سألنا أبسط فلاح أو أعظم مهندس فلاحي عن أسباب الفيضانات لكانت الإجابة بديهية: اعتراض مجرى المياه. ورغم التحذيرات التي صدرت في بلاغات عن المرصد الوطني للرصد الجوي، وقعت الكارثة في ولاية نابل يوم السبت 22 سبتمبر.
200 ميليمتر في 24 ساعة
تحولت “غسالة النوادر” من نعمة تقوم بغسل “المنادر” (جمع مندرة – مع تحوير في النطق – وهو مكان تجميع الحبوب وفصلها عن التبن) إلى نقمة تغرق المدن وتتلف الأراضي الفلاحية بالانجراف. وتنزل هذه الأمطار في العادة آخر شهر أوت ويستبشر بها الفلاحون في بداية الموسم الفلاحي. لكن السنة الحالية شهدت اضطرابا عميقا في أوقات وكميات التساقطات على البلاد التونسية. فامتاز شهر أوت منذ بدايته بأمطار غزيرة على كامل البلاد ــ حتى المناطق الجافة منها ــ واستُهِلّ شهر سبتمبر بفيضانات في ولاية بنزرت ولم يأب المغادرة دون كارثة في ولاية نابل وحالة تأهب في بقية المناطق الساحلية الشرقية. وقد رصدت الأقمار الصناعية خلال نهاية الأسبوع تحول خلايا رعدية من وسط حوض البحر الأبيض المتوسط نحو الساحل الشمالي الشرقي للبلاد التونسية أسفرت عن أمطار طوفانية في ولاية نابل.
تراوحت نسبة الأمطار في ولاية نابل خلال 24 ساعة بين 55 مم و297 مم بمعتمدية بني خلاد. وقد اتحد كل من عوامل الكمية والوقت والبنية التحتية كي يحدثوا كارثة طبيعية تسببت في وفاة 6 أشخاص بين غارقين ومصعوق بالتيار الكهربائي واجتياح الماء لـ 2500 منزل وجرف السيارات وتعطيل سير القطارات.
وكان تدخل الحماية المدنية متمثلا في شفط المياه من المنازل وإزاحة وسائل النقل العالقة وإنقاذ المواطنين من الغرق وإيواء من تضررت منازلهم. وقد تنقل رئيس الحكومة يوسف الشاهد إلى ولاية نابل كي يعاين الأضرار ويشرف على اجتماع اللجنة الجهوية لمجابة الكوارث في مقر الولاية. وعليه تم اتخاذ قرارات تشدد على العودة إلى الحالة العادية من فتح للطرقات وإغاثة للمتضررين ودراسة إجراءات التعويض للمواطنين والفلاحين وذلك بالتنسيق مع السلطات المحلية المنتخبة حديثا. وقد صرح رئيس الحكومة بأن لجنة مجابهة الكوارث في حالة انعقاد دائم وأن مجلسا وزاريا مضيقا سينعقد خلال هذا الأسبوع لتقييم الأضرار شاملة ودراسة التعويضات.
العلاج دون وقاية
منذ وجود الإنسان على الأرض، كان صراعه مع الطبيعة محتدا وغالبا ما كانت الغلبة لتعبيرات الأرض الغاضبة. لكن سر تواصل النوع البشري كان دائما ما يكمن في قدرة هذا النوع على التأقلم. وفي تسريع لتاريخ البشر على الأرض، نقفز إلى مرحلة بناء الدول وتقسيم الأدوار بين المسؤولين لإعداد قوانين وخطط واستراتيجيات يتم اتباعها بحذافيرها تمشيا مع دراسات وأبحاث في الغرض وذلك قصد تسيير حياة المواطنين الذين يدفعون ضرائبا كمساهمة منهم في التأقلم مع مخاطر الطبيعة.
بالاطلاع على القانون عدد 39 لسنة 1991 المؤرخ في 8 جوان 1991 المتعلق بتفادي الكوارث ومجابهتها وتنظيم النجدة، ينص الفصل الثالث على إحداث لجنة وطنية دائمة تحت إشراف وزير الداخلية ولجان جهوية تحت إشراف والي الجهة. وعند حدوث كارثة، حسب الفصل السادس، يصدر وزير الداخلية إذنا بالعمل بالمخطط الوطني ويصدر الوالي إذنا بالعمل بالمخطط الجهوي. وفي الأمر الصادر عن رئاسة الجمهورية في 21 ديسمبر 2004 المتعلق بضبط طرق إعداد وتطبيق المخطط الوطني والمخططات الجهوية لتفادي الكوارث ومجابهتها وتنظيم النجدة وبتركيب وطرق سير اللجنة الوطنية الدائمة واللجان الجهوية، تم تعويض الفصل 14 من هذا القانون بفصل يحدد أعضاء اللجان الجهوية لتفادي الكوارث ومجابهتها وتنظيم النجدة وينص على رئاسة والي الجهة لهذه اللجنة بحضور ممثلين عن الأسلاك الأمنية الجهوية والعديد من الوزارات ومؤسسات الدولة.
ولسائل أن يسأل عن دور رئيس الحكومة وإشرافه على اجتماع اللجنة الجهوية لمجابة الكوارث بمقر ولاية نابل يوم الأحد 23 سبتمبر. إذ لا نجد في هذا القانون المنظم أي مكان للوزير الأول أو غيره من الممثلين عن الوزارة.
أما عن التنسيق بين مؤسسات الدولة، فإن رئيس مصلحة الاتصال بالمعهد الوطني للرصد الجوي محرز الغنوشي أكد إعلامه للسلطات المعنية بالأمطار التي ستهطل على ولاية نابل في بلاغ تحذيري منذ يوم السبت على الساعة السابعة صباحا. وحسب هشام السكوحي، مهندس بالمعهد الوطني للرصد الجوي، عند استضافته في التلفزة الوطنية الأولى، فإن الخلايا الرعدية كانت قد دخلت منطقة الوطن القبلي عند الساعة الواحدة ظهرا واستمرت بالتواجد لخمس ساعات. بينما صرح وزير الداخلية هشام الفراتي، رئيس اللجنة الوطنية الدائمة لإعداد ومتابعة تطبيق المخطط الوطني لتفادي الكوارث ومجابهتها وتنظيم النجدة، بأن التدخل كان بعد تراجع منسوب المياه في نابل.
يعني أن وزارة الداخلية باعتبارها المسؤولة على اللجنة الوطنية الدائمة لتفادي الكوارث ومجابهتها وتنظيم النجدة كانت قد تلقت إشعارا قبل 6 ساعات من وصول الخلايا الرعدية ولم يتم التنسيق مع اللجنة الجهوية بنابل كي تتخذ الإجراء ات الوقائية اللازمة من تحذير للمواطنين من التجوال وتعزيز الإمكانيات الجهوية للولاية والتأهب لعمليات الإنقاذ.
مسؤولون أمام الكارثة
وفي علاقة بردود الأفعال، فيما يلي جرد لتصريحات المسؤولين المتدخلين في مجابهة الفيضانات التي أصابت ولاية نابل:
– سلوى الخياري، والية نابل ورئيسة اللجنة الجهوية لتفادي الكوارث ومجابهتها وتنظيم النجدة:
في تصريح لها على القناة الوطنية الأولى، أكدت والية بأن اللجنة الجهوية واللجان المحلية في حالة انعقاد دائم وأن الوضع تحت السيطرة بعد وفاة شيخ في معتمدية تاكلسة. ولكن يبدو أن السيطرة لا تشمل وضع رقم أخضر على ذمة المواطنين كي يتصلوا به لنجدتهم. بل اقترحت السيدة الوالية الاتصال برقمها “المعروف” لدى المواطنين.
-محمد صالح العرفاوي، وزير التجهيز والإسكان والتهيئة الترابية :
تدخل وزير التجهيز في إذاعتين مختلفتين. صرح في الأولى بأن الفيضانات التي ضربت ولاية نابل لا علاقة لها بالبنية التحتية وأن الطرقات والجسور لم تتضرر بفعل تدفق المياه. ثم تحدث في الثانية بأن البنية التحتية في نابل والجمهورية التونسية بصفة عامة تعاني من العديد من النقائص وهي ليست مهيئة للتأقلم مع التغيرات المناخية. وفي المقابل أضاف أن ميزانية الدولة لوزارة التجهيز لا تتحمل أتعاب حماية المدن من الفيضانات.
– سمير الطيب، وزير الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري :
عبّر وزير الفلاحة عن اطمئنانه على الموسم الفلاحي بنابل إثر تدعيم السدود بمياه الأمطار. وكان قد وصف آثار الفيضانات “بالخسائر البسيطة” مقارنة بالفوائد التي نتجت عن فائض المياه.
ماذا “يقترح” القانون؟
لا يدعي أحد صلاحيته كي يحل محل السلطات ولكن القانون واضح. فالمشكل بالأساس يتجاوز الطبيعة وغضبها. المشكل بالأساس مؤسساتي ولا يحتاج خبرات متعددة كي يقع تنفيذه. فيما يلي تصور للسيناريو الذي كان ممكنا أن يكون لو تم تطبيق القانون:
-
1 .يرسل المعهد الوطني للرصد الجوي بلاغات تحذيرية للسلطات المعنية.
-
2 .تجتمع اللجنة الوطنية لمجابهة الكوارث الطبيعية بوزارة الداخلية ويترأسها وزير الداخلية. يصدر الوزير أمرا بالعمل بالخطة الوطنية
-
3 .تجتمع اللجنة الجهوية لمجابهة الكوارث الطبيعية بمقر ولاية نابل وتترأسها والية الجهة. تصدر الوالية أمرا بالعمل بالخطة الجهوية.
-
4 .تتجند الفرق المعنية من شرطة وحرس وحماية مدنية استباقيا وتقوم بتسخير المعدات.
-
5 .توفير مراكز للإيواء تحسبا لعمليات اخلاء للمنازل.
-
6 .اعلام المواطنين بالوضعية والعمل على حثهم اجتناب استعمال عرباتهم.
-
7 .وضع رقم أخضر لاستقبال نداءات النجدة.
الفيضانات كأثر من آثار التغيرات المناخية
من الواضح أن التمشي الذي اعتمدته الدولة لمجابهة الكارثة ــ الطبيعية في ظاهرها والبشرية في باطنها ــ كان متململا وينقصه التنسيق والالتزام بالقوانين المسيرة المخصصة في الغرض. فالبنية التحتية الحضرية والريفية لم تكن مهيئة على ما يبدو لتحمل هذه الكميات الكبيرة من الأمطار ويعود ذلك إلى نقص تهيئة قنوات التخلص من مياه الأمطار وبناء الطرقات فوق مجارٍ طبيعية للمياه ونصب السدود على مستوى السرير الفيضي للوديان. أيضا، كانت عمليات الإنقاذ متأخرة وعاجزة أمام ارتفاع منسوب المياه رغم التحذيرات السابقة بالأمطار وضعف المعدات المخصصة للتعامل مع هذه الكارثة الطبيعية. ولا شك بأن تضارب أقوال المسؤولين فيما بينهم، بل وحتى مع أنفسهم (وزير التجهيز مثالا) لا يبشر بخير أمام تصاعد وتيرة الظواهر المناخية المتطرفة.
في الواقع، لا تخفى على المسؤولين ظاهرة التغيرات المناخية بل أنهم عادة ما يطنبون في استعمال المفهوم عند كل تدخل إعلامي. ولكنهم دائما ما يفاجئوننا بتفاجئهم من آثار هذه الظاهرة وكأن الدولة التونسية لم توقع على الاتفاقيات الدولية للمناخ. وفي ظل هذه الأزمة المناخية العالمية، يبقى السؤال قائما حول الاستراتيجيات المعتمدة في مجابهة الكوارث الطبيعية التي يتسبب فيها التغير المناخي.
وعليه، كم من مواطن سيكون ضحية للفيضانات إما مهددا في حياته أو في ممتلكاته؟ وكم ستتكبد الدولة من مصاريف لتنظيف وإعادة تهيئة البنية التحتية إثر كل فيضان؟ وإلى متى سيكون تدخل اللجان الوطنية والجهوية لتفادي الكوارث ومجابهتها وتنظيم النجدة استباقيا وناجعا خاصة وأن التهديد مازال قائما في بقية السواحل الشرقية خلال هذا الأسبوع حسب ما حذر منه المعهد الوطني للرصد الجوي؟