حمران: رحلة السيادة الغذائية وصعوبات تطبيقها على أرض الواقع
مالك الزغدودي: صحفي وباحث تونسي مهتم بقضايا البيئة وحقوق الإنسان
برز خلال السنوات الأخيرة في الفضاء العام، وخاصة الناشطين والفلاحيين النقاش حول مفهوم السيادة الغذائية. نظمت طيلة هذه الأعوام العديد من الندوات وورشات العمل وخرجت إلى النور عديد المبادرات الجمعياتية والشبابية في هذا الاتجاه. وتزامن هذا الحراك مع عودة الكثيرين إلى العمل الزراعي في الأرض ومحاولة خلق بدائل فلاحية تحافظ على البيئة وناجعة في الآن ذاته، ومن بين هذه المبادرات نجد مجموعة حمران (Homran community) وهم مجموعة من الشباب التونسي عادوا من فرنسا ودول أخرى في هجرة معاكسة من الشمال إلى الجنوب، واشتروا أرض في قرية حمران التي تبعد أكثر من عشرة كيلومترات بقليل عن مدينة عين دراهم. تقع الغابة في قلب جبال خمير وهي فضاء حر لممارسة قناعات السيادة الغذائية والحفاظ على التوازن البيئي وتطبيق نظريات البناء الأخضر المتناغم مع الطبيعة مع الحفاظ على أكبر قدر ممكن من الاستقلالية الطاقية والغذائية.
أصبح الفضاء قبلة للشباب المؤمن بقيم السيادة الغذائية والمحب للطبيعة والباحثين حول السياسات الغذائية والفلاحة التقليدية والمستدامة، وأصبح مجموعة حمران نموذجا يحبه سكان المنطقة وملهم لباقي المجموعات المؤمنة بنفس القيم. لكن لم تجر الرياح كما تشتهي سفن مؤسسي فضاء حمران ورواده، فبعد فترة من بناء المنزل والبدء في التجارب الزراعية وانتاج البذور المحلية تفطنت المجموعة إلى وجود مدجنة دجاج لا تحترم الشروط والتراتيب الصحية والقانونية المنصوص عليها بكراس الشروط، ورغم تبليغهم السلط المعنية بشتى الوسائل والطرق القانونية الممكنة، وتضمين الشكايات كل الوثائق والمؤيدات القانونية اللازمة، لم تحرك السلط المسؤولة ساكنا وظل الأمر على ما هو عليه من تجاوزات خطيرة في حق الغابة وتجربة مجموعة حمران عموما.
طريق رحلة السيادة الغذائية يبدأ بخطوة
تجدر الإشارة في البداية إلى ظروف وسياقات نشأة مفهوم السيادة الغذائية، حيث ظهر المفهوم بداية في بعض دول أميركا الجنوبية وشرق أسيا، بصفته مفهوم مناقض للمفهوم الرأسمالي للأمن الغذائي، وتطور في سياق الحركات الفلاحية الشعبية الجذرية التي حررت مساحات الأراضي الزراعية من براثن الأنظمة السياسية المستبدة والشركات الغذائية والزراعية الصناعية العابرة للقارات، وتمردت على سياسات حكوماتها الداعمة للأغنياء، والمدافعة عن مصالح الرأسماليين وأصحاب المشاريع الفلاحية الكبرى المستغلة للأرض والشركات الرأسمالية الاحتكارية العابرة للقارات. وهنا يظهر مفهوم السيادة الغذائية بصفته مفهوما يحمل فلسفة وممارسة تحررية شعبية مقاومة تهدف إلى تحقيق السيادة الغذائية وممارستها على أرض الواقع وإنتاج الغذاء وتحقيق الاكتفاء بعيدا عن جشع الشركات وتدمير الموارد الطبيعية.
يقاوم المؤمنون بقيم السيادة الغذائية خاصة شركات البذور والكيماويات والسياسات الزراعية العالمية القائمة على استنزاف الموارد والتربية والتدجين المكثف للحيوانات، إضافة إلى مجابهتهم تدمير الموروث والنموذج الزراعي والغذائي المحلي.
من داخل هذه الفلسفة والقناعات خرجت مجموعة حمران المتكونة في البداية من ثلاثة أصدقاء آمنوا بهذه المبادئ وقاموا بشراء أرض بمنطقة حمران أحد أرياف مدينة عين دراهم أين بدؤوا طريق تأسيس حلمهم المقاوم واستقبلوا العديد من التونسيين والأجانب لمشاركتهم تجاربهم واندمجوا مع المجتمع المحلي شيئا فشيئا.
تحدثنا مريم وهي مهندسة فلاحية تونسية: ” لقد درسونا في أسوار الجامعة التونسية أو في فرنسا نموذجا زراعيا واحدا يتميز بوفرة الانتاج مهما كانت الكلفة على الأرض والموارد الطبيعية، هذا النموذج الناجح حسب وصفهم يمكن لنا ملاحظة تأثيره على المناخ والتغيرات المناخية الخطيرة التي شهدها العالم. لقد عدنا من فرنسا من أجل تنفيذ حلم تطبيق نموذج مصغر للسيادة الغذائية والزراعة من خلال البذور المحلية والبناء من خلال الموارد المحلية المتناغمة مع الطبيعة وتجنب كل مظاهر الضرر نحو الطبيعة”.
القطاع الفلاحي مشاكل هيكلية تضاف إليها مشكلة التغيرات المناخية
يعتبر القطاع الفلاحي في تونس من أهم القطاعات الاستراتيجية في البلاد ويساهم بنسبه 10 % في الناتج الداخلي الخام وهي نسبة تعتبر متدنية نظرا للمشاكل والصعوبات الكبيرة التي تعيشها المنظومة الفلاحية منذ الاستقلال. وبالرجوع إلى السياسات المتبعة من قبل الدولة للنهوض بالقطاع الفلاحي، نلاحظ انه تم الاعتماد على ثلاث استراتيجيات مختلفة انطلاقا من مرحلة التوجه نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي بعد الاستقلال والعمل على تلبية الحاجيات المحلية ومحاولة الترفيع في اليد العاملة إلى أن وصلت إلى 80% من إجمالي اليد العاملة في تونس[1].
رغم هذه الأهمية للقطاع الفلاحي إلا أنه يعيش أزمات متكررة ومتواترة ويسقط من سلم أولويات واستراتيجيات الدولة وهذا أمر شديد الخطورة خاصة في ظل التغيرات المناخية التي تهدد أغلب المنتجات على طول الخارطة الفلاحية التونسية، عوض أن تدعم الدولة محاولات السيادة الغذائية أو لنقل التجارب التي تحاول تحقيق نموذج فلاحي مستدام وأكثر عدالة مثلما هو الحال مع مجموعة حمران، فهي على النقيض تماما تدعم كبار الفلاحين ونفس النماذج الفلاحية التي أثبتت فشلها سابقا.
لم تحرك أجهزة الدولة المحلية والجهوية ساكنا من أجل تطبيق القانون وحماية البيئة والغابة وتطبيق القانون على المدجنة غير المحترمة للشروط القانونية رغم توفر كل أدلة الإدانة وهذا ما أكدته مريم في شهادتها حيث صرحت : “الأمر الأكثر غرابة أني مهندسة فلاحية وأعرف جيدا من الناحية التقنية أن المدجنة مخالفة قانونيا وأن الروائح والفضلات لا يمكن معالجتها هنا والتخلص منها في الغابة، لكن تقرير الجهات الصحية هنا يؤكد على عدم وجود رائحة كريهة وهذا الأمر مستحيل تقنيا ولو حدث لأصبحت تونس رائدة في هذا المجال، طبعا الريادة هنا في تجاوز القانون …”
نص التقرير محل اعتراض مجموعة حمران
تؤكد مريم أيضا أن المستوصف يبعد 20 مترًا فقط عن مبنى التكاثر (محضنة التكاثر). لكن تقرير الخبير يقول إن الممرضة لا تنزعج من نشاط التكاثر ولا من الرائحة. إن كان وجود مدجنة لا يؤثر على المرضى ولا مخاطر صحية منجرة عن قرب المدجنة فلماذا لم يجب التقرير حول إذا كان القانون يسمح بهذا القرب؟ وهو ما يقدح في مصداقيته.
وقد كان المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وثق هذه التجاوزات الخطيرة في حق الغابة في إطار مناصرته للحقوق البيئية. وفي زيارتنا الثانية لمجموعة حمران لمواكبة تحركاتهم في مجابهة التغيرات المناخية ورصد تأثيرها عليهم ورصد تطور تجاربهم الزراعية، كانت المفاجأة غير السارة في أن التجاوزات في حق الغابة لم تتوقف كما أن السلط المحلية والجهوية لم تحرك ساكنا.
رابط تقرير قسم البيئة بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بعنوان خروقات بيئية في غابة حمران
يحدثنا عمر وهو الآخر مهندس فلاحي ترك عمله بفرنسا وعاد لتأسيس مجموعة حمران حيث أكد:” نحن لم نطلب من الدولة شيئا سوى تطبيق القانون، نحن نناضل من أجل الحفاظ على الغابة وبحوثنا في تطبيق تجربة فلاحية تعتمد على البذور المحلية غايتها ليست ربحية. سوف نوفر البذور لكل من يرغب في زراعتها. نحن نؤمن بنموذج فلاحي لا يعتمد على الانتاج المكثف واستنزاف الأرض والماء والمبيدات، لذلك سوف نواصل النضال بكل الطرق القانونية من أجل التمسك بحقنا وتطبيق القانون.”
السيادة الغذائية حل من حلول مقاومة التغيرات المناخية
في مواجهة التغيرات المناخية ومن أجل تأسيس نموذج فلاحي بديل وتطبيق مفهوم السيادة الغذائية، يسعى مجموعة من الناشطين البيئيين والمجتمع المدني وفلاحيين مؤمنون بعديد المبادرات المهمة منها الدفع نحو الاعتراف بالبذور الأصيلة بموجب القانون. حيث أن القانون التونسي المتعلّق بالبذور والشتلات والأصناف النباتية المدرجة في السجل الرسمي يفرض قيودا على بذور الفلاحين ويذهب إلى حد منع بيعها وتبادلها.
تبدو الوضعية سريالية في بلد يمتلك موروثا من البذور ذي جودة وحيث تواتر نقص الموّاد الغذائيّة الاساسيّة سمة رئيسية لحياة التُونسيين.
يفرض القانون المؤرّخ في 10 ماي 1999 توزيع البذور المهجنة والغير قابلة للتكاثر في شكل حزم تقنية تقدمها شركات البذور، مرفوقة بأسمدة تضر بالتنوّع البيولوجي والنظم البيئية، وتفرض على الفلاحين التونسيين تبعية مطلقة لهذه الشركات. هنا نلاحظ أن تجارب مثل مجموعة حمران تمثل نواة مهمة في تحقيق فلاحة مستدامة متأقلمة مع التغيرات المناخية وتمس بشكل مباشر نموذج حياة التُونسِيين حيث أن المسألة تتعلّق بالصحّة العموميّة من حيث رفع مستوى الوعي بالغذاء الصحّي من خلال شراء المنتوجات الفلاحية المنتجة من البذور المحلية وزيادة الوعي لدى الرأي العام بالآثار الضارّة للمبيدات الكيميائية، التّي غالبا ما تستخدم في الزراعة المكثفة.
ربما تكون فكرة تأسيس مجموعة حمران بهدف التخلص من تقاليد الفلاحة الرأسمالية والتركيز على نقل تجربتهم الفلاحية للزوار حافزا لتعزيز الوعي بأهمية الزراعة المستدامة وتوفير فضاء لتنفيذها. ومع ذلك، تواجه أغلب المجموعة المدافعة عن هذه الخيارات تحديات كبيرة من أجل تحقيقها وفرضها كسياسة فلاحية عمومية تطبق في أغلب الجهات التونسية.
[1] منير حسين ومحمد قعلول، 2021. تهديد السيادة الغذائية في تونس. دعم الفلاحة الربحية وتهميش الفلاح الصغير. التقرير السداسي لقسم العدالة البيئية بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. https://ftdes.net/ar/crise-de-souverainete-alimentaire/