عاملات القطاع الفلاحي زمن الكورونا: منسيات ايضا

عاملات القطاع الفلاحي المنسيات قبل وفي زمن الكورونا

فرع المنتدى بالقيروان

روبرتاج: منيارة المجبري

كتابة المقال: حياة العطار

نساء بلادي جنديات في مواجهة الوباء

نساء بلادي كنا ولازلنا دائما باختلاف مستوياتهن وإمكانياتهن في الصفوف الاولى في كل أزمة فكما الطبيبة والممرضة وعاملة النسيج وعاملة الادارة والصحفية والصيدلانية والناشطة المتطوعة والأمنية والعسكرية كذلك عاملات النظافة وعاملات الفلاحة جميعهن جنود المرحلة تصدرن الصفوف الاولى في معاضدة مجهودات الدولة في مواجهة الجائحة وحماية عائلاتهن وتأمين قوت ابنائهن.

ولئن سُلطت الاضواء مؤخرا على “جنود البلوزة البيضاء” وإسهامات المرأة داخل المستشفيات وخارجها وكتبت الصحف الوطنية والعالمية عن عاملات مصنع “كونسوماد” بالقيروان اللاتي دخلنا في الحجر الذاتي لتأمين استمرارية انتاج المستلزمات الطبية من كمامات وأزياء خاصة للوقاية من العدوى (انظر هنا وهنا و هنا…) لتنسج على منوالهن عاملات كثيرات في ولايات اخرى.  فان هذا لا يخفي الوجه الآخر للحقيقة كشفته الارقام وعرته جمعيات ومنظمات المجتمع المدني الوطنية والدولية التي كثفت جهودها في الرصد والمتابعة والإنصات والتحسيس والتنديد بالعنف المسلط على النساء نظرا لما شهدته النسب من ارتفاع خلال فترة الحجر الصحي كما دعت منظمة الأمم المتحدة على لسان أمينها العام “غوتيريش”  الى”السلام في المنازل” وحماية النساء أثناء الحجر الصحي وتوجه المجتمع المدني برسالة الى رئيس الحكومة لاعتماد سياسة نسوية لمقاومة فيروس كوفيد 19 وتداعياته على حقوق النساء خاصة اللاتي يعانين هشاشة اقتصادية واجتماعية وفي حاجة للدعم والإحاطة لتأمينهن وتموينهن وتمكينهن من ظروف الشغل اللائق والآمن والتصدي للعنف المسلط ضدهن. كل هذا لم يجد الى اليوم اي صدى ولا تفاعل جدي من طرف الحكومة ولم نسمع عن اي اجراء خاص بهذه الفئة التي لم تتوانى للحظة عن العمل ومضاعفة الجهود في هذا الظرف الاستثنائي ولم تخشى الوباء بل واجهته بعزيمة وإصرار وحس وطني عميق.

وسط هذه الحركية النشيطة والزخم الاعلامي والمعلوماتي الهائل  غابت صورة النساء العاملات في المزارع والأراضي الفلاحية وخفت صوتها عدا بعض المقالات والتحقيقات التي لا تتجاوز عدد اصابع اليد أو نداءات المجتمع المدني وبيانات المنظمات فلا البر امج الاعلامية ولا البرامج الحكومية ولا حتى حسابات رواد الفضاء الازرق من نشطاء أو نواب أو سياسيين ممن كانوا بالأمس يزينون بروفيلاتهم بصور “الفولارة الخضراء” تذكروهن.

جفت الأقلام عن الحديث عن عاملات الفلاحة وشحت بهن صدور المسؤولين وأصحاب القرار.

 

عاملات الفلاحة: المنسيات في زمن الكورونا

 هل ننتظر أن يفتك وباء كورونا بإحدى العاملات في القطاع الفلاحي حتى تتذكر حكومتنا الموقرة أنها نسيت جنديا من جنودها بلا سلاح ولا ذخيرة ولا مؤونة ولا وقاية يصارع وحده عدوا لا يرحم أم أن جنود الخفاء قدّر لهن أن لا تذكر أسمائهن ولا يحسب لهن حساب ولا تسلط عليهن الاضواء الا بعد كل كارثة تزهق فيها ارواح عدد منهن لنبيكيهن أو في الاعياد والمراسيم لنتشدّق بحقوقهن ونتزيّن بوشاحهن؟

هن الكادحات رغم المحن والأزمات، هن الصامدات في وجه العنف والمعاناة، بريق الأمل الصامد رغم كل هذا الزخم من الانهيارات، كيف لا وهن من على أكتافهن تنشأ أجيال وأجيال وبسواعدهن تملأ المخازن وتعمّر الديار، عاملات الحقول جانيات الثمور، نساء العمق اللاتي يروين بعرقهن الأرض لتنبت وتثمر وبخيراتها نأمن لغذائنا و نقاوم الأزمات والحروب. فقد لا تكفي مشاعر الاسى على وصف معاناة هذه الشريحة من نساء بلادي.

عاملات منسيات وقطاع غاب عن ترتيب الاولويات

هن منسيات ونسيانهن متأت من نسيان قطاع كامل، على أهميته، أهملته الدولة ولم يحظى بالرعاية اللازمة ولم يسلم اولوياتها أو ضمن مخططاتها رغم عشرات الأزمات التي شهدها خلال السنوات الاخيرة والتي كانت ناقوس خطر يدق ايذانا بحدوث أزمة حقيقية تسير بنا نحو الفقر الغذائي. ولعل اتفاقية الاليكا وحدها كفيلة بكشف ما كانت تسير نحوه الفلاحة في تونس.

اليوم ونحن في حرب حقيقة وفي عزل تام عن كل دول العالم أثبتت الازمة أن الغذاء كالدواء على حد سواء كلاهما ضروري وكلاهما شرط معافاة الجسد المجتمعي فهل من منقذ لنا غير أرضنا وخيراتها وفلاحتنا واليد والساعد العامل فيها؟

في الحديث عن الفلاحة اخص بالاهتمام العاملات فيها، الحلقة الأضعف في سلسلة القطاع، تحاوطهن المخاطر من كل جانب ويطاردهن شبح الموت مع كل خطوة منذ لحظة خروجهن من بيوتهن فجرا في الشاحنات أو على الأقدام حتى عودتهن قبل الغروب  ومع هذا تجدهن كاتمات لغيضهن بفؤاد حليم لا يفيض إلا بالصفاء والمحبة، وجوههن المجعدة منهكة القوى تكسوها بسمات بينما في عيونهن صرخات تئن بصمت مكتوم، حملهن ثقيل تنوء تحته الجبال ولكنهن يتحدّين الوباء والعناء ويسلكن الطرقات الوعرة في رحلتهن اليومية للكفاح من أجل البقاء، تقول أمي فجرة” من معتمدية الرقاب سيدي بوزيد في رسالة موجهة لكل التونسيين نشرها موقع قرطاج نيوز: “يا الاولاد شدوا دياركم يهديكم يفضلكم.. تونس عينها بكم.. شدوا دياركم هانا احنا نخدموا عليكم”  كلماتها تلخص المشهد ولعلها تصل الى صانعي القرار حتى يعوا جيدا ثقل ما تحمله هذه الحرة وغيرها من حرائر تونس اللاتي لولاهن لخلت الاسواق والمخازن من الخضر والغلال والقمح والذرة.

شهادة عاملات في ارياف القيروان

تنقلنا هذا الأسبوع الى أحد  أرياف ولاية القيروان والتقينا بمجموعة من النساء اللاتي تمردن على الوباء وخرجن اضطرارً للعمل رغم خطورة الوضع، تقول “درصاف” (32 سنة متزوجة وأم لثلاثة أبناء) أنها لم تستطع البقاء في البيت أكثر من 15 يوما، اسبوعان نفذ خلالهما الزاد لتجد نفسها مضطرة للخروج والعمل وتعويض زوجها الذي اجبره الحجر الصحي العام على غلق محله الصغير والبقاء في المنزل. درصاف اغلقت أمامها أبواب المنح الاجتماعية التي صرفتها الدولة للفئات الهشة لتجد نفسها تحت سلطة العمدة الذي اثبتت الوقائع ان ملفات كثيرة ظلمت وزج بها في الرفوف حتى يأذن لها هذا الأخير بالانصاف.

“جميلة”  (45 سنة) هي ايضا متزوجة وأم لأربعة أبناء كغيرها من النساء اللاتي حملن على عاتقهن مسؤولية تموين العائلة في ظل هذا الظرف، تقول جميلة انها تشق يوما مسافة طويلة سيرا على الاقدام للعمل في الحقل غير آبهة بالوباء بل وتبتسم في وجهه مع كل يوم تعود فيه للبيت بما تسد به رمق حياتها وتطعم به أبناءها لكن هذا لا يخفي تخوفها وإحساسها بالخطر سيما وأنها تعمل دون اية وسيلة للوقاية، كمامتها هي “فولارتها” ويداها عاريتان دون قفازات، سلاحها الماء والصابون، ليس في الحقل ولكن عند العودة للمنزل.

وعن الأجر تقول “سعاد” أن 13 د في اليوم مبلغ زهيد مقارنة بأجر الرجل العامل في نفس المجال وانها تعلم أن في الأمر تمييز لكنها مجبرة على القبول ببعض الدنانير خاصة في هذا الظرف بالذات.

اما عن التغطية الاجتماعية فقد لاحظنا أن عددا كبيرا منهن مازلنا خارج المنظومة التي اطلقت ببادرة شبابية، منظومة “احميني”، تحسب الحكومة نفسها أنها تبنتها كحل لوضعية العاملات في القطاع الفلاحي  والواقع أن هذه الفئة التي تعمل خارج النطاق الرسمي للقانون وتنتمي الى قطاع اقتصادي غير منظم تعاني من تدني الأجر وعدم الاستقرار الشغلي ولجوؤها الى هذا القطاع رغم كل الانتهاكات هي إجابة على فشل الاقتصاد الرسمي في استيعابها وفشل التشريعات في حمايتها.

 

ارادة الاصلاح غائبة، قوانين في الرفوف والآليات هشة

ولئن قامت منظمات المجتمع المدني بدورها الرقابي والتحسيسي وبالضغط ميدانيا من خلال حملات المناصرة  والدراسات والتقارير التي قدمتها كالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات وجمعية النساء للبحث حول التنمية والجمعية التونسية للحراك الثقافي فإن التقصير يبقى سياسيا تعوزه الإرادة الحقيقية لتغيير واقع النساء العاملات في القطاع الفلاحي. ولعلها فرصة  للتذكير بموقف المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الذي يعتبر العاملات في القطاع الفلاحي كغيرهن من الفئات الهشة هن ضحية الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي شهد أزمات كبيرة ومتواصلة خاصة ما بعد 2011 نتيجة تعمّق الفوارق الاجتماعية وارتفاع نسب الفقر والبطالة والهشاشة في المناطق الريفية لتكون هذه المؤشرات اكثر وقعا على المرأة العاملة في الوسط الريفي في غياب إرادة سياسية لحمايتها رغم كل الدعاية الإعلامية ورغم ان وضعية المرأة وحمايتها من كل اشكال الانتهاك والاستغلال كانت عناوينا لوعود انتخابية وتنافس سياسي دون اثر فعلي ملموس لدى هذه الفئة ورغم الترسانة القانونية المهمة وآخرها القانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017 الخاص بالقضاء على العنف ضد المرأة. فحجم الانتهاكات اثبت ان القوانين وحدها قاصرة عن حماية هذه الفئة الهشة كما أن اقتراح مشاريع قوانين مثل القانون المتعلق بإحداث صنف نقل العملة الفلاحيين هو مواصلة في نفس التمشي المنقوص الذي سبق وان انتقدنا الحكومة فيه. ان المنوال الاقتصادي الحالي يهمش النساء اقتصاديا واجتماعيا ويجعلهن من الفئات الهشة فرغم الدور الطلائعي للمرأة التونسية في الدفاع عن حقوق الانسان وفي الحركات الاجتماعية والمدنية فان الارادة السياسية الغائبة ترى في حقوق النساء والمساواة مجرد إجراءات وقوانين وشعارات لا تلقى في اغلبها طريقا للتطبيق مادامت لم تترجم إلى سياسات تكرس الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للنساء. وبالنسبة لنا لابد ان ينطلق تحسين وضعية المرأة في القطاع الفلاحي من مراجعة عميقة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية ومن تصوّر افضل لدور الفلاحة في الاقتصاد الوطني والتمكين الاقتصادي للمرأة في الوسط الريفي وبإرادة سياسية في تفعيل القوانين وردع المخالفين والمنتهكين لحقوق العاملات في القطاع الفلاحي.

 نزّل المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية قضية الدفاع عن حقوق المرأة العاملة في القطاع الفلاحي ضمن تصور عام للدفاع عن منوال تنموي بديل يكون اكثر عدالة وانصافا للجهات والفئات الهشة.

 

اجراءات عاجلة يفرضها الوضع الوبائي لانقاذ القطاع والعاملات فيه

واذ نحن في خضم معركة وأمام وضع مرجح للأسوأ نظرا لما يمثله خطر انتشار الجائحة من تهديد يجب علينا توفير الأدوات من أجل خوضها والانتصار فيها، والانتصار الذي ننشده لا يأتي الا بالقرارات السليمة والمدروسة والعمل الدؤوب، الذي يصب في اتجاه من هم في الواجهة ومن بهم نحفظ أو نخسر توازننا.

فاننا ندعو المجتمع المدني والمنظمات النسوية والمهتمين بالقطاع الفلاحي إلى اليقظة والتعبئة لمواجهة وباء فيروس كورونا وتداعياته على القطاع الفلاحي والعاملات فيه ومطالبة الحكومة بضرورة الاهتمام الجاد بالأوضاع الهشة لهذه الفئة التي تواجه الجائحة بنفس الوضع الذي طالما نبهنا اليه ونددنا به كما يجب دعوة الحكومة إلى التعجيل بايجاد آلية تضمن لهذه الفئة ادنى ظروف العيش الكريم وإعطائهن الأولوية في الاستفادة من المنح والمساعدات الاجتماعية بطريقة ناجعة ودون احداث فوضى وتعريضهن للخطر كما حدث هذه الايام أمام مكاتب البريد.

ولحماية صحة العاملات ووقايتهن من خطر العدوى ندعو إلى تكثيف زيارات المراقبة للضيعات الفلاحية التي اقتضت الضرورة استمرارها في العمل لفرض التزام المشغلين باحترام الإجراءات الاحترازية الصحية أثناء العمل واثناء نقل العاملات تفاديا لانتشار الوباء وحفاظا على سلامتهن الصحية.

المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية فرع القيروان

المجد لنضالات النساء

تسجيل الدخول إلى Al-Forum

أنشئ حسابك

نحن نستخدم كوكيز

نحن نستخدم ملفات الكوكيز لجعل تجربتك أفضل