بعد عشر سنوات من الثورة
الحكومة الجديدة في مواجهة تركة ثقيلة ووضع لم يعد يتحمل الاخفاق
حياة العطار
المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية
أشهر قليلة تفصلنا عن احياء الذكرى العاشرة لثورة الحرية والكرامة، عقد من الزمن مرّ على سقوط اول شهيد للقهر والحيف لتندلع بعده شرارة الثورة وتتحرّر الحناجر والصدور وتتالى الشهادات في سبيل الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، نضالات وتضحيات انتجت سقوط الدكتاتورية والبدء في بناء تونس جديدة كما حلم بها شباب الثورة وشيبها، أشهر قليلة أيضا تفصلنا عن احياء الذكرى السابعة لصدور دستور تونس الجديد (27 جانفي 2014) الذي جاء ليقر بجملة من المبادئ والحقوق الاقتصادية والاجتماعية وليؤكّد على أهميّة مبدأ المساواة ليس فقط كقيمة إنسانيّة سامية من مرتكزات المنظومة الكونيّة لحقوق الإنسان ولكن أيضا باعتباره من المبادئ الجوهريّة التي نادى بها الشعب الثائر على نظام الاستبداد.
عقد من الزمن مر على سقوط الدكتاتور فكانت من أهم نتائج الثورة هي دستور الجمهورية الثانية بأحكامه وفصوله ومبادئه وجملة الحقوق والحريات التي اقرها والتي كانت ثمرة نضالات أجيال من الحقوقيين والحقوقيات، ومجتمع مدني قوي ومتنوع وفاعل كما مكنت من صناعة واقع سياسي جديد يقوم على التعددية الحزبية في حين عجزت الحكومات المتعاقبة على تحقيق النهضة الاقتصادية والاجتماعية وتلبية المطالب الملحة لتحسين ظروف عيش التونسيين ومكافحة البطالة والفقر، القادح الأساسي لشرارة الثورة ومغذي لنقمة شباب جسّدها البوعزيزي في حركة يائسة اشعلت فتيل الغضب الشعبي وغيرت مسار بأكمله.
حينما تتحول مطالب الثورة الى مبادئ وحقوق صلب دستور 2014
تم افراد الحقوق والحريات الاساسية بباب كامل في الدستور التونسي الجديد تضمّن مختلف الحقوق والحريات المدنية والسياسية منها وخاصة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية على غرار الحق في التعليم (الفصل39) والحق في الصحة لكل مواطن (الفصل38) والحق في الثقافة وحرية الإبداع (الفصل42) والحق في الماء (الفصل 44) والحق في بيئة سليمة ومتوازنة (الفصل 45) . أما بخصوص الحق في الشغل فقد خص له الفصل 40 الذي اقتضى أن “العمل حق لكل مواطن ومواطنة، وتتخذ الدولة التدابير الضرورية لضمانه على أساس الكفاءة والإنصاف. ولكل مواطن ومواطنة الحق في العمل في ظروف لائقة وبأجر عادل”.
ولأن المرأة التونسية كانت ولاتزال عنصرا فاعلا في كل المحطات النضالية ولعبت دورا رياديا في عديد الحركات الاجتماعية ومدافعة شرسة عن حقوق الإنسان، واعترافا لها بمساهمتها في بناء الديمقراطية جاء الفصل 46 من الدستور ليقرّ بأن ” تلتزم الدولة بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة وتعمل على دعمها وتطويرها” تأكيدا على تمسك المشرّع بمكاسب دولة الحداثة ودعم حقوق المرأة وتثبيت مبدأ المساواة بينها وبين الرجل في الحقوق والحريات دون تمييز فكان الفصل 21 القاضي بأن “المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز.” دليلا على انتصار النص الدستوري لمكتسبات المرأة التونسية ولمبدأ المواطنة ومبادئ حقوق الانسان.
هكذا يكون دستور 27 جانفي 2014 قد تبنى مقاربة شاملة وموسعة للحقوق الاساسية للإنسان وفيا بذلك لمطالب الثورة والشعارات التي رفعها الفاعلون فيها وعلى رأسها التشغيل والحرية والكرامة. اقرار جملة هذه الحقوق هي أرضية خصبة لتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية وضمان تكافؤ الفرص لكل افراد المجتمع وتحقيق التوازن بين الجهات على اساس مبدأ التمييز الايجابي الذي خصه الدستور ايضا بفصل كامل في بابه الأول حين أقرّ في الفصل 12 بأن تسعى مخططات التنمية إلى إصلاح الفوارق الواضحة بين الجهات وخلق الثروة وتحقيق عدالة اجتماعية والاستغلال الرشيد للثروات الوطنية ودعم اللامركزية واعتمادها بكامل التراب الوطني (الفصل 14)
رغم الحقوق التي دسترت تبقى الهوة شاسعة بين النصوص والواقع
لئن تضمن الدستور الجديد نصوصا وفصولا تعكس وعيا بأهم الأسباب التي أدت إلى اندلاع ثورة 17 ديسمبر 14 جانفي فان الثابت اليوم أنه لا يزال في حدود الحبر على الورق بعيدا كل البعد عن التنزيل في الواقع بل حتى في كثير من الاحيان لا يتصف بالعلوية بالنظر لحجم الخروقات التي تمارس يوميا الى جانب غياب آليات تطبيقه رغم الإشادة به دوليا ووطنيا.
وضعية المرأة في تونس واقع لم يواكب التشريعات:
يقول كارل ماركس “إذا أردت أن تعرف مدى تقدم مجتمع ما، فانظر إلى وضع المرأة” وواقع المرأة في تونس اليوم، رغم الترسانة القانونية والتشريعية، خير دليل على تخلف مجتمعنا وقصور القوانين فيه على حمايتها والنهوض بها اجتماعيا واقتصاديا. ففي دولة، ادهشت العالم بثورتها، اقرت بالمساواة الفعلية بين الرجل والمرأة ودسترتها بفصول خاصة وامضت على اتفاقيات ومعاهدات دولية أهمها اتفاقية منظمة العمل الدولية حول المساواة في الأجور سنة 1968 والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية سنة 1969 واتفاقية مناهضة جميع أشكال التمييز ضد المرأة سنة 1985 ظلت النساء الحلقة الأضعف في المجتمع التونسي تطالهن كل أشكال الانتهاك والتمييز والاستغلال رغم نضالات الحركة النسوية ونجاحها في الانتقال بالنضال النسوي من الشارع والفضاء المجتمعي الى البرلمان فتحولت الى قوة ضغط فاعلة ادت الى تطوير المكاسب التشريعية للمرأة وتعزيزها بقوانين جديدة على غرار القانون عدد 58 لسنة 2017.
حسب احصائيات وزارة التجارة لسنة 2019 تساهم المرأة التونسية في الناتج الخام بنسبة 68 %، وتقدر نسبة حضورها في قطاع التربية والتعليم والصحة 60% ، وقطاع السياحة 75%، والقطاع العام 55 % إلا أن نسبة كبيرة من النساء يعملن في القطاعات الهشة والغير مهيكلة وفي ظروف سيئة وبأجور متدنية ودون تغطية اجتماعية ولا صحية ويتعرضن لكل اشكال العنف والمخاطر ولعل وضعية العاملات في القطاع الفلاحي وعاملات النسيج وعاملات الحضائر والمعينات المنزليات خير دليل على ذلك … اذ تشكل المرأة يد عاملة قوية بنسبة تفوق 90% في قطاع النسيج والملابس وأكثر من 70% في القطاع الفلاحي.
ان ما تشهده الوضعية الاقتصادية والاجتماعية للمرأة في تونس قبل وبعد الثورة هو نتاج لخيارات تنموية ولمنوال قام على تهميش النساء اقتصاديا واجتماعيا وجعلهن من الفئات الهشة والغير قادرة على مواجهة الازمات والصمود امام المتغيرات مع غياب الارادة السياسة لإصلاح واقع المرأة وتمكينها اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا فنجدها مشاركة وفاعلة وأحيانا قيادية في عديد الحركات الاحتجاجية الاجتماعية وفي الصفوف الأولى في معركة استرداد الحقوق والبحث عن الكرامة. اذ أن هاجس المرأة لم يعد فقط المساواة في الحقوق والحريات مع الرجل بل أصبحت تحمل نفس القضايا والهموم لانخراطها الفاعل في الحياة الاقتصادية ومشاركتها في كل المجالات وتحمّلها المسؤولية الكبرى داخل الأسرة وداخل المجتمع فتجدها في كل التحركات وفي كل المحطات النضالية تطالب بحقوقها وحقوق الأجيال القادمة.
ان واقع العشر سنوات لم يخلو يوما من التظاهر والغضب والاعتصامات التي ظلت سمة ملازمة لعدة جهات وفئات وحتى لعدة قطاعات بعد الثورة ففي السنوات الاخيرة سجل المرصد الاجتماعي التونسي بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ارتفاعا في عدد الحركات الاحتجاجية منها المطالبة بالحق في الشغل والحق في الصحة والحق في التعليم والحق في الماء والحق في بيئة سليمة … ومنها المنددة بالعنف وبعودة القمع والتضييق على الحريات وكأن الدستور وضع ليبقى حبيس الرفوف بعيدا كل البعد عن الواقع. ففي السنوات الخمس الاخيرة مثلا ورغم استقرار المشهد السياسي في تونس والانتقال الديمقراطي الذي يحسب للتجربة التونسية مقارنة ببقية التجارب العربية للثورات، حافظت الحركات الاحتجاجية على نفس النسق حيث سجل المرصد 8713 تحركا خلال سنة 2016 و10452 سنة 2017 و9356 سنة 2018 و 9091 سنة 2019 اما سنة 2020 فقد سجل المرصد خلال السداسية الاولى عدد 4566 تحركا رغم الظرف الاستثنائي الذي مرت به البلاد وسائر بلدان العالم بسبب جائحة كورونا والحجر الصحي الشامل كما سجل المرصد خلال شهر جويلية 798 تحركا احتجاجيا تركز أكثر من نصفها بالولايات الغربية حيث احتلت ولاية قفصة المرتبة الاولى ب319 تحركا تليها القيروان ب103 تحركا وتأتي ولايات القصرين وسيدي بوزيد في المرتبة الرابعة والخامسة في عدد التحركات. هذه الارقام هي ترجمة لحالة الاحباط واليأس الذي سببه المشهد السياسي الضبابي والذي افقد ثقة المواطن في السلطة وفي الطبقة السياسية ويعكس ايضا فشل البرامج والسياسات الوطنية في النهوض بالجهات المحرومة وإيجاد حلول جذرية للملفات الاجتماعية والحد من غضب الشارع والتعامل الناجع مع الازمات وأخرها ازمة كوفيد 19 التي كشفت الستار عن حجم الدمار في القطاعات.
من سنة الى اخرى تعددت اشكال الفعل الاحتجاجي وتطورت آلياته فمن الحديث عن الوقفات و المسيرات و اضرابات الجوع وغلق الطرقات الى رصد حالات ومحاولات الانتحار لدى جميع الفئات والأعمار ليصبح الفعل الانتحاري فعلا احتجاجيا بامتياز، فرض وجوده لأنه يعكس الديناميكا الاجتماعية والتوتر وحالة الاحتقان القصوى التي عاشت على وقعها تونس طيلة العشر سنوات الماضية. فبالرغم من تراجع عدد حالات ومحاولات الانتحار خلال السنوات الخمسة الاخيرة حسب ارقام المرصد الاجتماعي:
حالات ومحاولات الانتحار (2016- السداسي الاول من 2020)
السنة | عدد الحالات |
2016 | 908 |
2017 | 370 |
2018 | 467 |
2019 | 268 |
السداسية الاولى من سنة 2020 | 159 |
جويلية 2020 | 11 |
ارقام المرصد الاجتماعي التونسي
يظل الفعل الانتحاري حاضرا يتطلب لا فقط دراسات ومعالجة سيكولوجية وسوسيولوجية للظاهرة بل ايضا مراجعة جادة للسياسات التنموية وإرادة سياسية فعلية لتحسين الوضع الاجتماعي والاقتصادي وتقليص الفجوة بين الجهات خاصة التي تعاني التهميش والتمييز منذ الاستقلال الى اليوم.
حالات انتحار كثيرة في صفوف الشباب بعد الثورة سواء المعطلين عن العمل أو العاملين في القطاعات الهشة والغير مهيكلة ومن منا لا يتذكر حادثة انتحار ابن القصرين رضا اليحياوي ذو السادسة والعشرون ربيعا في جانفي 2016 احتجاجا على حذف اسمه من قائمة انتداب 79 من الشباب المعطل عن العمل. عبد الرزاق الزرقي ايضا اضرم النار في جسده قبل ايام من الاحتفال بالذكرى الثامنة للثورة، انتحار المراسل الصحفي كان نتيجة الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها جهة القصرين منذ عقود كذلك فعلها عبد الوهاب الجبلاني عامل الحضيرة اصيل معتمدية جلمة ولاية سيدي بوزيد احتجاجا على سياسة المماطلة والتجاهل والتهميش التي تنتهجها الحكومات المتعاقبة مع فئة عمال الحضائر وبقية الفئات الهشة بعد سنوات من الانتظار والتوق الى العدالة والأنصاف. ذكر هذه الحالات لا يعني انها الاهم بل لأنها تشترك جميعها في الكينونة والسيرورة والصيرورة وحتى في الجغرافيا فكانت وفاتهم شبيهة بوفاة محمد البوعزيزي. ابناء هذه الجهات، القصرين، سيدي بوزيد والقيروان، اقليم الوسط الغربي الذي يسكنه قرابة المليون ونصف مليون نسمة، رغم ثراء مخزونه الطبيعي والفلاحي وارثه الثقافي الممتد عميقا في التاريخ إلا انه يعاني طوال عقود من التهميش والحرمان والإقصاء نتيجة السياسات التنموية المتبعة منذ سبعينات القرن الماضي.
مثال لمؤشرات التنمية الجهوية بين 2015 و2018
المصدر: المعهد التونسي للقدرة التنافسية والدراسات الكمية: مؤشر التنمية الجهوية كدليل لصياغة خارطة تنموية جديدة، عدد 55 سبتمبر 2019
ولعل التفسير الوحيد لتدني مؤشر التنمية في النصف الغربي من الخريطة يعود إلى حجم الفجوة التي خلقتها السياسات الوطنية في جميع المجالات من بنية أساسية وخدمات صحية وثقافية مما جعل من المناطق الساحلية أكثر استقطابا للمؤسسات حيث تنتصب فيها حوالي 51 % من المؤسسات الصغرى والمتوسطة وتتركز بها مجمل الوحدات السياحية والصناعية في المقابل تتصدر منطقة الوسط الغربي نسب الفقر والانتحار والاحتقان الاجتماعي اما منطقة الشمال الغربي فتحتل المرتبة الاولى من حيث نسبة الأمية والانقطاع عن الدراسة في سن مبكرة.
هذه الارقام وان كان فيها القديم إلا أنها لم تشهد تحسنا يذكر في السنوات الاخيرة بل زادت تأزما وعمت كل البلاد خاصة مع اجتياح فيروس كوفيد 19 تونس وحالة الركود التي تسبب فيها اجراء الحجر الصحي الشامل والذي تواصل لمدة شهرين انكشفت خلالهما عورات القطاع العمومي كالصحة والنقل والخدمات والتعليم وأسفر عن حالة من البطالة القسرية شملت خاصة القطاعات الهشة والغير مهيكلة.
ان الوباء كشف حجم الضعف والهشاشة التي مست كل القطاعات والمؤسسات والتشريعات وحجم التفاوتات الاجتماعية التي عمقتها السياسات المتبعة منذ عقود. ولعل هذا يحيلنا الى استحضار دراسة «جائحة كوفيد 19في تونس: التفاوت والهشاشة في مواجهة الفقر والبطالة» التي أنجزها الأستاذ عزام محجوب في شهر ماي والتي سلطت الضوء على الآثار الاجتماعية للوباء من حيث التفاوت والهشاشة تجاه الفقر والبطالة وكذلك قدم استاذ الاقتصاد والخبير الدولي في حقوق الانسان المتعلقة بالتنمية وفي العلاقات الدولية والإقليمية مجموعة من السيناريوهات المحتملة لفترة ما بعد الوباء والتأثيرات السلبية على الظروف المعيشية وعلى نسبة الفقر والهشاشة اذ توقع اربع سيناريوهات لتراجع النمو الاقتصادي ب1% والثاني ب3% والثالث بـ 4% بما يتطابق مع توقعات البنك الدولي أما السيناريو الرابع فرجح الخبير تراجع نسبة النمو الاقتصادي بـ 5% وبالتالي نتيجة لذلك فان معدل الفقر سيرتفع حسب نسبة الانكماش الاقتصادي الذي سيحصل. كما توقع الدكتور عزام محجوب ارتفاعا لنسبة البطالة لتصل الى حدود 17.6% حسب السيناريو الرابع بالنظر الى عدد مواطن الشغل التي ستهدر بسبب الوباء.
توقعات كانت ناجمة عن دراية بالوضع الاقتصادي والاجتماعي والديموغرافي للبلاد وعن دراية بالهنات التي لم تكن خفية عن اهل الاختصاص مؤكدا على ان المسألة الاجتماعية “ستكتسب مركزية واضحة في الحاضر والمستقبل وسيؤدي المدى غير المسبوق للركود الناجم عن الوباء الى تدهور اقتصادي لا مثيل له … وسينتشر الفقر على نطاق واسع مع زيادة ملحوظة في نسب الفقر المدقع والهشاشة”.
توقعات وان بدت مفزعة الا انها لم تكن مستبعدة خاصة مع حالة الارتباك والتعثر التي ميزت العمل الحكومي والاجراءات التي اتخذتها في مجابهة الوباء والتي لم تشمل اغلب الفئات الاجتماعية خاصة الفئات الهشة والعاملة في القطاعات الحرة أو القطاعات الغير مهيكلة لتأتينا مؤخرا ارقام المعهد الوطني للاحصاء وتؤكد كل التوقعات بل فاقتها بدرجات اذ شهد الاقتصاد الوطني حالة من الانكماش غير مسبوقة خلال الثلاثي الثاني من سنة 2020 بنسبة 7.6% كما تبين نفس الاحصائيات ان ازمة كوفيد 19 تسببت في ارتفاع عدد العاطلين عن العمل خلال الثلاثي الثاني لسنة 2020 ليبلغ 746.4 ألفا من مجموع السكان النشيطين مقابل 634.8 ألف عاطل عن العمل تم تسجيله خلال الثلاثي الأول من نفس السنة. وبالتالي ارتفعت نسبة البطالة لتبلغ 18% بعد ان كانت 15.2% خلال الثلاثي الأول من نفس السنة.
المعهد الوطني للاحصاء: نتائج المسح الوطني حول السكان والتشغيل للثلاثي الثاني من سنة 2020
ورغم أن أزمة الكوفيد ألقت بظلالها على كل القطاعات وخلفت أضرار جسيمة على الاقتصاد الوطني إلا أنها كانت أكثر تأثيرا ووقعا على الفئات الاجتماعية الأكثر هشاشة او مجتمع الهامش كما ورد في دراسة “سوسيولوجيا الهامش في زمن الكورونا الخوف، الهشاشة، الانتظارات” للباحث في علم الاجتماع وعضو الهيئة المديرة للمنتدى الأستاذ ماهر حنين الذي انكب على إعداد الدراسة منذ اجتياح الفيروس للبلاد وتواصل مع الفاعلين والنشطاء والمهمشين وأصحاب الحقوق المنهوبة وكتب الدراسة بروح الباحث السوسيولوجي الذي يرى المسائل من زوايا مختلفة عن التي يرى منها الخبراء والاقتصاديون والسياسيون فحاول من خلالها “توجيه الاهتمام إلى نقطة عمياء في كل نظرة كلية للأزمة وكل تصور كلي للحل وهي مجتمع الهامش في زمن الوباء… كيف عاش مجتمع الهامش والهشاشة في تونس هذا المنعطف؟ كيف تمثل الازمة وتداعياتها؟ هل كان يملك وسائل التوقي والحماية اللازمة منها المادية والمعنوية؟ ثم ماهي تطلعاته المستقبلية وهو لا يزال ينتظر منذ عشرة سنوات حقيقة التغيير في حياته اليومية؟” تضمنت الدراسة شهادات لعينة من المستجوبين “في أماكن نائية تفتقد للماء الصالح للشراب وللقدرة على التزود وفاعلين من ضحايا التشغيل الهش من عمال الحضائر والعاملات في القطاع الفلاحي والنسيج وفئة المعطلين عن العمل وذوي الاحتياجات الخصوصية وسكان الأحياء الشعبية والمهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء“. وسلطت الضوء على انعكاسات الجائحة على مجتمع الهامش وتأثيراتها السلبية عليه مبينة الفوارق بين «المندمجين» في الدورة الاقتصادية والمهمشين منهم وزيادة هشاشة هذا المجتمع وحدتها أثناء وبعد الحجر الصحي الشامل ليخلص الباحث في خاتمة الدراسة إلى ضرورة إدماج هذه الفئات في الدورة الاقتصادية والياء المسألة الاجتماعية الأهمية الكبرى وجعلها في مقدمة الاهتمام السياسي والانتقال الديمقراطي والنهوض بالجهات الأكثر فقرا وهو ما لا يمكن تحقيقه بنفس السياسات والبرامج الاقتصادية ونفس المنوال التنموي الذي اهترأ ولم يعد قادرا على الصمود أمام التحولات الحاصلة والتحديات المستقبلية والتراكمات التي بدأت منذ سنوات بالانفجار والتمضهر من خلال التحركات الاحتجاجية والتعبيرات الرافضة للوضع والتي تنوعت حسب الفئات والمطلبية والعوامل الجغرافية المساعدة عليها وتواصلت رغم إجراءات الحجر الصحي الشامل لتحتل الشارع من جديد في تحدي للوباء وجرأة على الحياة ثم تطورت في فترة قصيرة لتأخذ شكلا جديدا من حيث الآلية والفاعلين فيها.
الهجرة غير النظامية عائلات تركب قوارب الموت بحثا عن واقع افضل
الهجرة الغير نظامية في تونس والتي كانت غالبا هاجس الشباب خاصة المعطل عن العمل للخـلاص مـن واقـع مرير مغرق في التهميـش والإقصاء والفقـر والبطالـة ترفضها عادة اغلب العائلات نظرا لخطورتها وارتباطها الحتمي بالمأساة وضعف نسبة نجاحها الا انها اليوم وخاصة خلال الاشهر الاخيرة ونتيجة للتداعيات الاقتصادية لأزمة الكوفيد على الفئات المحدودة الدخل شهدت انخراطا للعائلة وللنساء والقصر في عملية اجتياز الحدود، حركة جديدة أو هي قديمة متجددة من حيث الشكل والعوامل المساهمة فيها، اتخذت شكل الحركة الاحتجاجية التصعيدية وأصبحت هاجسا للعائلات لا فقط للأفراد. فحسب ارقام قسم الهجرة بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية شهد السداسي الاول من سنة 2020 تواصلا لعمليات اجتياز الحدود نحو ايطاليا، ورغم ما شهدته الاخيرة من حالات اصابات بفيروس كورونا ورغم تفشي العدوى فيها بشكل ارهب الشعب والسلطات الايطالية بقي حلم الهجرة يراود فئة كبيرة من الشعب التونسي الذي دفعه الاحباط واليأس والتهميش الى المغامرة وتحدي الوباء. فقد بلغ عدد المهاجرين التونسيين غير النظاميين الذين وصلوا الى السواحل الايطالية خلال الفترة الفاصلة بين 1 جانفي و30 اوت 2020 ، 7885 مهاجرا منهم نساء وقصر وعائلات، فقد عرف شهر جويلية وأوت ارتفاعا ملحوظا في عدد المهاجرين حيث اعلن قسم الهجرة بالمنتدى عن وصول 4145 مهاجرا خلال شهر جويلية و2230 مهاجرا في شهر اوت. موجة لم تشهدها تونس منذ 2011 عمقتها أزمة الكوفيد وتأثيرات الحجر الصحي الشامل على العائلات المتوسطة ومحدودة الدخل وقصور البرامج الرسمية وإجراءات الحكومة في مواجهة الازمة الشيء الذي دفع العائلات الى الهجرة وركوب قوارب الموت بحثا عن واقع ربما يكون افضل بالنسبة اليهم.
عينة لأرقام قسم الهجرة بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية
ارقام مفزعة وواقع ينبئ بمزيد من التأزم في الفترة القادمة خاصة امام وضع اجتماعي هشّ وتراكم الملفات الاجتماعية (ملف الحضائر، المعلمين والأساتذة النواب، المعطلين عن العمل من اصحاب الشهادات العليا ومن الدكاترة الباحثين، عاملات القطاع الفلاحي والقطاعات الأخرى الغير مهيكلة كالنسيج، ملف الفسفاط والتشغيل في منطقة الحوض المنجمي…) وتفاقم ازمة العطش والتلوث والتي لم تتعامل معها الحكومات المتعاقبة بالجدية والنجاعة الكافية إضافة إلى تداعيات فيروس كورونا على الاقتصاد الوطني وعلى القطاعات الحيوية والغياب شبه التام للاستثمارات مع مواصلة الاشتغال بنفس منوال التنمية الموروث عن المنظومة السابقة وفي ظل ضبابية المشهد السياسي وغياب الرؤية والتخطيط الاستراتيجي لإصلاح القطاعات العمومية على غرار التعليم والصحة والنقل. كلها ساهمت وستساهم في المزيد من الاحتقان كما ستغذي شعور اليأس والإحباط لدى اغلب الفئات الاجتماعية لتجعل السيناريوهات القادمة مفتوحة على كل الاحتمالات.
حكومة هشام المشيشي: بين ارث ثقيل وشعب نفذ صبره
عاشت تونس طيلة هذا العقد من الزمن على وقع ثقل التخمة السياسيّة التي طمست المطالب التنمويّة والاجتماعية والاقتصادية للثورة رغم ان كل الحكومات التي تعاقبت، بدءً من حكومة محمد الغنوشي وصولا الى حكومة الياس الفخفاخ، لم تخلو خطاباتها من شعارات العدالة الاجتماعية وتحقيق التوازن بين الجهات والقضاء على الفقر والبطالة والنهوض بالشباب وتطبيق القانون والقضاء على الفساد بينما الواقع عكس ذلك، فقد عمقت ممارسات الطبقة السياسية والسياسات المصرح بها حجم الهوة بينها وبين باقي مكونات الشعب التونسي فظلت الحكومات في برجها العاجي دون أن تتحرّك قيد أنملة نحو هامشها الذي فجّر الثورة.
عشر سنوات تداولت فيها 11 حكومة على السلطة ونشأ خلالها 227 حزبا سياسيا، اليوم تأتينا حكومة هشام المشيشي وعددها 12 في ترتيب حكومات ما بعد الثورة، والتي، كسابقاتها، استهل رئيسها المقترح خطابه الأول بعد تكليفه بنفس الشعارات ونفس الوعود والبرامج التي ما لم تقترن بتخطيط وإستراتيجية واضحة المعالم وإرادة فعلية لتغيير المنوال التنموي الحالي وتكريس منوال جديد يستجيب لتطلعات الشعب ويتماشى مع تحديات المرحلة ستكون كسابقاتها سيما في ظل وضع كارثي على جميع المستويات انكشفت عوراته خاصة مع أزمة الكوفيد وما نتج عنها من خسارات فادحة في كل القطاعات.
ارث ثقيل القي على عاتق حكومة هشام المشيشي، “حكومة المنجز الاقتصادي والاجتماعي” كما سماها رئيسها في خطاب تسليم المهام، ستكون بمثابة القشة التي يتمسك بها الغريق، فلا مجال للإخفاق ولا للتساهل معها لأن الشعب الذي انتظر عقدا من الزمن على امل ان تتحسن اوضاعه اصبح اليوم غير قادر على مزيد الانتظار كما ان القطاعات التي دمرت وتدهورت آن الأوان لترميمها وإصلاحها من الداخل. “شانطي” كبير يجب ان يفتح وان تنكب الحكومة الجديدة على العمل والجد ووضع استراتيجية وطنية لإنقاذ الاقتصاد الوطني والذي لن يكون إلا بإرادة حقيقية في الانجاز وبخلق موارد جديدة وتحالفات جديدة والاستثمار في الموارد والطاقات البشرية والطبيعية وتفعيل مبدأ التشاركية وإدماج الفئات الاجتماعية في الدورة الاقتصادية وتمكين المرأة في الوسط الحضري والريفي من المشاركة الفاعلة في الاقتصاد كما لا يجب أن تنسى الحكومة الجديدة تعهدات الحكومات السابقة بخصوص الملفات الاجتماعية العالقة والاتفاقات المبرة مع الحركات الاجتماعية والإيفاء بها تجنبا لانفجار اجتماعي ربما لن يكون بنفس نتائج حراك 17 ديسمبر 2010 بالنظر إلى التغييرات التي شهدها المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي وطنيا ودوليا.
ختاما نريد ان نذكر الحكومة الجديدة ان خلافا لأزمة كورونا وتداعياتها فان امامها معتصمون تقريبا في جل الوزارات وإمام البرلمان وفي الطرقات وأمام مقرات الولايات لا يجب تجاهلهم من طالبي شغل معطلين عن العمل اصحاب شهادات عليا ومن دكاترة باحثين ومن عمال حضائر ضحايا برامج التشغيل الهش عازمون العودة الى الميدان للمطالبة بحقهم في الترسيم وبتفعيل الاتفاقات السابقة، ومن اصحاب شهادات عليا فاقت بطالتهم العشر سنوات ينتظرون تطبيق قانون يرون فيه طوق النجاة من البطالة ومن التهميش، كما نذكر الحكومة انه إلى اليوم لايزال هناك مواطنون يعتصمون ويناضلون ضد التلوث الناجم عن مصبات النفايات وعن المصانع الملوثة ويطالبون فقط بحقهم في الحياة وآخرون نصبوا خياما واعتصموا سلميا من اجل حقهم في الماء، الأكيد أنكم سمعتم عن احتجاجات العطش وما لحق نشطائها من تجريم ووصم. ولان الفترة القادمة مفتوحة على كل الاحتمالات وتنبئ باحتقان اجتماعي غير مسبوق وجب عليكم العمل على تفعيل كل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ووضع سياسات عامة وميزانيات تضمنها والنظر بعين الاعتبار لكل هذه المسائل في برامجكم القادمة على الاقل حفاظً على السلم الاجتماعي.
المصادر والمراجع:
- دستور تونس 2014
- المعهد التونسي للقدرة التنافسية والدراسات الكمية: مؤشر التنمية الجهوية كدليل لصياغة خارطة تنموية جديدة، عدد 55 سبتمبر 2019
- دراسة “جائحة كوفيد19: الفوارق والهشاشة تجاه الفقر والبطالة” للدكتور عزام محجوب
- المعهد الوطني للاحصاء: نتائج المسح الوطني حول السكان والتشغيل للثلاثي الثاني من سنة 2020
- سوسيولوجيا الهامش في زمن الكورونا: الخوف – الهشاشة – الانتظارات: ماهر حنين
- أرقام المرصد الاجتماعي التونسي بالمنتدى تقارير الاحتجاجات الاجتماعية والانتحار (سنوات 2016/2017/2018/2019/2020)
- ارقام قسم الهجرة بالمنتدى تقرير السداسية الاولى من سنة 2020 وشهر جويلية من نفس السنة