الكورونا وعولمة الهلع بقلم: ماهر حنين
نشر بجريدة المغرب
في أقل من شهرين حوّل فيروس كوفي 19 اللاّمرئي «القرية العالمية» كما تصفها سردية العولمة الي قرية مذعورة فالخوف
هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس اليوم لأن الطبيعة الناقلة للفيروس لا تتوقف أمام حدود أراضي تحميها الالهة ولا أمام أجسام محصنة بقوة السحر أو التّعبد أ والحرس الشخصي وهي كذلك لا تتوقف أمام الدّول المالكة لأعتي الجيوش ولا علي حدود الفراديس الجبائية و جزر الأغنياء . كلنا أمام الفيروس أجسام عارية و كلنا أمامه متساوون باحتمال الإصابة ومسؤولون على احتمال نشر العدوي بماهي تهديد لحياة الحياة الآخرين فهل كنا في حاجة الي جائحة أخري لنفهم أن الانتماء للإنسانية انتماء للمشترك وان جموح الخلاص الفردي لا يقود الاّ الي الجحيم ؟
نعيش منذ سبعينات القرن الماضي بداية التحوّل نحو عالم يكشف اليوم عن تناقض بنيوي يحكمه بشكل مستحدث يعود إلي التّناقض بين مسارات ومجالات التّوسع الرأسمالي وتفكّك الكيانات السياسية التاّريخية الموروثة عن الحداثة الأولي المؤسسة لسلطة الدولة كسلطة للإرادة العامة أي أننا في قلب ما يصفه سمير أمين إدارة الفوضى يعني النزوع نحو كلية الاقتصادي وتفكك السياسي بمشروعياّته القيمية الإنسانية .
وهو ما لا تقف ارتداداته عند مركز النظام الرأسمالي بل تمتد الي أطرافه المعرّضة أكثر من أي وقت مضي لفقدان مقومات الحياة اقتصاديا وسياسيا وثقافيا واليوم إيكولوجياّ، في حين يستمر وصمها بجغرافيا توليد البربرية و التخلف و الإرهاب. في خطّة عنصرية لعزلها وعدّها عبئا على الاقتصاد المعولم
تتفكّك في زمن العولمة محتويات وأشكال السّلطة التقليدية للدولة فهي لم تعد تستند علي النموذج القانوني الحديث أي علي قاعدة الآلية التعاقدية التي نظّرت لها فلسفة العقد الاجتماعي التي نقلت مشروعية سيادة الدولة من السماء إلى الإرادة العامة في مجال سلطتها الترابي وفق التصور القانوني الذي يضع ثلاثة شروط لوجود الدولة هي الإقليم والشعب والسلطة السياسية مثل هذا المثلث فقد معناه اليوم أمام قوة الشركات الكبرى وضعف الحكومات وزوال الحدود القديمة في وجه حركة البضائع و الاستثمارات و الصور والمعلومات.
الإمبراطورية كشكل غير مسبوق للوضع العالمي اليوم ليست مؤسسة على معاهدات وليس لها أي مصدر فيديرالي لإدارة المعمورة ديمقراطيا ، مصادر معياريتها الجديدة هي في نفس الوقت تجارية وصناعية واتصالية وفى بعض المنعطفات عسكرية. باختصار الية بيو-سياسية معولمة.
بضرب من ضروب حيلة العقل إنّ الذي يتعولم اليوم ليست حركة المال و البضائع بل أيضا حركات الريح و الهواء و الأشياء الحاملة للفيروسات التي تنتجها الطبيعة حيث تشاء و تنقلها حيث تشاء فسرعة انتشار المرض من يوهان الي كلّ بقاع الدنيا وقبله وباء سارس وإبولا وجنون البقر و ارتفاع درجات الحرارة علي سطح الأرض و أزمات الجفاف والآثار البيئية لزحف المدن علي الغابات و التمادي في استغلال الطاقات الباطنية للأرض و التعديل الجيني للنبات كمصادر لغذائنا تصدمنا اليوم بحقيقة تأليفية عنيدة وهي أن للطبيعة حدودا غير قابلة للخرق . لسنا سادة العالم حين نتملك العلم و نعتنق ديانة السوق ونسقط القيم ونبرر خواء الرّوح.
حين نقف على دور التّحولات التقنية من جهة كونها أدوات للإنتاج والاستخدام والاستعمال اليومي في سير الحياة اليومية ثم لاحقا علي توسّع تقنيات الاتصال عبر ثورة المعلوماتية الأخيرة، نقف من ثمة علي سلطة التقنية كتنظيم اجتماعي وإداري وبيروقراطي فوقي يرافق تطّور قوى الإنتاج ويحوّل الدّولة عبر ترسانتها القانونية والإدارية والتحكمية الي أداة لتغيير طبيعة العلاقات الاجتماعية. نفهم بالنتيجة المهام الجديدة التي تضطلع بها الدولة التي توصف بأنها ملائمة للعصر حين تتملك تفاصيل المراقبة و الضبط وتترك العنان للسّوق وتوصف بالرديئة والمحافظة حين تتمسك بدورها الاجتماعي والتعديلي . من هنا يفتح لنا تفشي الوباء العالمي إمكانية النظر في مشكلتين تخترقان الوعي الشّقي للإنسانية منذ عقود وهما موضوع اهتمام فكري وفلسفي لا يتوقف بل يتعمّق
الأولي هي مشكلة التقنية او العلم والعقل الحسابي اليوم وهي لا تنحصر في عدمية المعني بعد طرد السّحر من العالم بالمعني الفيبري ولا فيما صارت تملكه الإنسانية من قدرة تقنية على تدمير ذاتها نوويا دفعة واحدة أو تدريجيا بفعل غلبة منطق الربح والإنتاج على تهديد التوازن البيئي وكيفية صناعة ما نأكل وما نشرب وما نلبس وصناعة وتسويق الادوية ومواد التجميل وفق منطق السّوق او تكنولوجيا التحكم الجيني في الموروث الطبيعي للنبات والحيوان و حتي الانسان ببرود بيوتكنولوجي صلف يسخر من كل رقابة قيمية. مشكلة العلم والتقنية كـ «أيديولوجيا» هي أنها فتحت سبل التحكم التقّني على المجتمع والحياة هي اليوم تلح ّ علينا حتي ندرك ضرورة الوعي مجدّدا براهنية سؤال الايتيقا كالتزام بالخير المشترك فهذا الاهتمام بالإيتيقي يعود إلى الفضاء العام بعد سبات سياسي وعلمي للتفكير فيما يمثله الخطر النووي وكذلك مشاكل البيئة من تهديد للجنس البشري ولكل أشكال الحياة وفيما تطرحه استخدامات تطور البيولوجيا والطب حين تديرها مصادر قوة ربحية وينضاف الى كلّ ذلك تزعزع منظومة القيم وصعود العدمية والفردانية
فالتقنية التي حولت الغرب إلي حيوان آلي بلا روح وحوّلت التنظيم البيروقراطي المقترن بقسوة «اللّوغوس» علي «الأيروس» الى عقيدة، وآثار عصر الكوارث كلها قرائن علي ما يعيشه الغرب من انفصام فهذا الأخير وبرغم إدّعائه انه يمنح البشرية نموذج تحرّرها ومسار تقدمها وكل النسق المفهومي و الإبستيميي لعالمية مشتركة يقف اليوم أمام صحراء المعني في زمن العولمة غير قادر علي تحمل إرثه فاليد الخفية للسوق تقف عاجزة للحدّ من جنون الهروب إلي الامام وتدور الدوائر لتصبح قوة الدولة القاهرة ملاذ الجميع .ويصمت البنك العالمي وتصعد إلي سدّة قيادة العالم المنظمة العالمية للصّحة.
ما كتب عن الكورونا مؤخرا بعودة مثلا الي مقولة البيو سلطة الفوكوية أو نقد سلوفاي جيجك لمفارقات العولمة التي حوّلت من جهة فتح الحدود إلي كشف السكان المحليين للوباء في نفس الوقت الذي تحوّلت فيه إجراءات التحكم في أجسام الناس إلي حلّ لحمايتهم من بعضهم البعض ليصبح الانضباط لدولة الرقابة والارتياب من الآخر شرط السلامة الفردية . لا مجال هنا لنقد جديّة الدولة وهي تتخّذ من يوهان نموذجا للحوكمة العالمية للمدن بل المطلوب هو الدفاع عن سلطة الدولة خارج رهاب الأزمات
المشكل الثاني والأهم في الدرس المستخلص من هذا «الفيروس العادل» هو الصعود القوي مجدّدا لفكرة المساواة فالأغنياء أفراد وطبقات ودول لا يستطيعون حماية أنفسهم لوحدهم من الشر كلّه في عالم غير عادل فكره الفقراء والمهاجرين و بسطاء الناس و بناء الأسوار دونهم لا يمنع البشرية أن تجد نفسها أمام مشاكل مشتركة حلولها مشتركة تراجيديا غياب المشترك ونهاية المجتمعات و شرنقة الفردانية هي تراجيديا قاتلة نشعر بها اليوم ونحن بين سندان الفيروس ومطرقة التقشف كإملاء اقتصادي نيوليبيرالي غير ديمقراطي بالمرّة سيضغط منطقه اللإنساني على الحكومات بأمر الأطباء لترك المسنينن ونسبة من المرضي يموتون لعجزميزاينية الدّول على علاجهم والحال أن نفس السياسة العالمية مكّنت دون حرج 1 % من أثرياء العالم من تملّك ما يقارب نصف ثروة البشرية جمعاء أنها تراجيديا نافية للحياة ومؤججة للغضب زيف العولمة النيوليبرالية أنها أوهمتنا بنهاية المجتمعات و نهاية المشترك الكوني وهى اليوم تتخبّط في عدميتها
لأجل ذلك تبرز فكرة المشترك كأفق لمجاوزة العولمة الأنانية الغير عادلة و من خلالها تعود فكرة الدولة الراعية و العادلة لا فقط زمن الأزمات بل كملاذ للإنسانية من هلاك نفسها بنفسها هذه الفكرة تتمدد داخل الحقل السياسية العالمية لتطرح معضلة ديون البلدان الفقيرة كقيد يجعل خدمة الدين أولي من خدمة حقوق الإنسان وهو ما رفضته مؤخّرا الحكومة اللبنانية تحت ضغط الحراك الشعبي كما تطرح مطلب التضامن العالمي فوق أرض هي موطن الجميع كما أكّد لنا ذلك فيروس كورونا الذي لا يفكرّ ولا يميز بين البشر استنادا الي لونهم ودينهم و مالهم وجنسهم
أن نفكّر في المشترك هو أن نفكر في المعيّة لا في العزلة أي في أن نعمل وأن نجتهد وأن نتدبر الحلول مع الآخر لا ضدّه لعل في هذه المقولة بداية تفوقنا الأخلاقي والأيديولوجي علي إيديولوجيا النيوليبرالية .