انقطاع المياه بنابل: “أساس الحياة” يغيب عن حياة قاطني الأرياف
برنامج التبادل الشبابي لمشروع العدالة البيئية في نسختها الثالثة: قربة من 15 إلى 20 جوان 2020
تقرير من إعداد:
-
راضية بن الحاج صالح، متطوعة من المنستير
-
محمد علاء الدين السالمي، متطوع من القيروان
-
أحمد بلخيري، متطوع من قفصة
-
تنسيق: رحاب مبروكي
تعيش مناطق عدة من ولاية نابل على غرار “الفرانين”و “السرادكة” و “بئر دراسن الجنوبية” الانقطاع المتكرر والمتواصل للمياه الصالحة للشرب منذ سنوات متتالية، مما شكّل معضلة حقيقية في حياة الأهالي الذين تحولت حياتهم إلى كابوس يومي جراء تواصل شبح العطش. ويستمر الوضع على حاله من السوء رغم ضمان الجمهورية التونسية الحق في الماء في الفصل 44 من الدستور التونسي و الذي جاء فيه تعهد الدولة بتوفير المياه لكافة المواطنين دون استثناء. و في ظل هذا الانتهاك الواضح لأحد أهم الحقوق المتعلقة بضمان كرامة الإنسان و أمنه البشري، فإن المسؤولية تبقى على عاتق كل من وزارة الفلاحة والموارد المائية و الصيد البحري و الشركة التونسية لاستغلال و توزيع المياه في إيجاد حل لهذه الأزمة.
قوانين حبر على ورق
لم تكن تونس كغيرها من دول العالم بمنأى عن ترسيخ مبدأ الاعتراف بالحق في المياه وتضمينه داخل التشريع الوطني، فتم دسترة هذا الحق في الدستور الجديد منذ سنة 2014. و بالإضافة لذلك تواصل العمل على إحداث مشاريع قوانين جديدة في هذا الإطار، ففي شهر أفريل من سنة 2019 تم تقديم مشروع قانون جديد لدى البرلمان التونسي لعرضه على أنظار لجنة الفلاحة والأمن الغذائي والتجارة والخدمات من أجل حماية الحق الطبيعي لجميع التونسيين في الماء الصالح للشرب. أما في 27 جويلية 2019 فقد تمت المصادقة على مشروع القانون الأساسي المتعلق بإصدار مجلة المياه، وقد جاءت المصادقة تنقيحا لما تضمنته مجلة المياه في نسختها القديمة الصادرة منذ سنة 1975 حيث أصبحت مقتضياتها غير ملائمة لمتطلبات المرحلة الحالية ولا تستجيب لضروريات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والصحية والبيئية للبلاد من خلال عدم تطابقها مع ما نصّ عليه دستور الجمهورية التونسية الذي كرَّس الحق في الماء و واجب المحافظة عليه وترشيد استغلاله من قبل الدولة والمجتمع. و على هذا الأساس فقد اتجه الخيار التشريعي إلى سنِّ مجلة جديدة للمياه تتلاءم مع متطلبات المرحلة الحالية والمستقبلية لوضع المياه في تونس و تكريس أسس التوازن بين الجهات و العدالة الاجتماعية، و قد تضمنت المجلة في نسختها الجديدة أحكاما أساسية أهمها اعتبار الموارد المائية ثروة وطنية يجب استغلالها و المحافظة عليها وتثبيت مبدأ الحق في مياه الشرب.
مبادرات عدة و مشاريع قوانين جاءت مواصلة لمنوال تشريعي متكامل من الأحكام والأوامر الضامنة للحق في المياه، لكن جميعها ظلت حبرا على ورق، حبيسة التّنصيص النظري وغارقة خلف ركام من القوانين التي تمّ سنّها دون أن تغير من واقع عديد المناطق العطشى شيئا.
أرياف نابل دون مياه
خارج أسوار مدينة نابل و بعيدا عن زرقة البحر و جماليته ينكشف وجه أخر لحياة العطش يعيشها سكان “الفرانين” و “بئر دراسن الجنوبية” و” “السرادكة”، هذه المناطق الريفية التي لا تبعد سوى بعض الكيلومترات عن قلب المدينة و تعاني صعوبات على مستوى التزود بالمياه منذ سنوات متتالية. و تصنّف معاناة الأهالي إلى صنفين : أحياء لم يتم ربطها بعد بشبكات المياه و أحياء أخرى تعيش على وقع انقطاعات متكررة و فجئية للمياه. ويزداد الوضع تأزما خلال الموسم الصيفي من كل سنة و ذلك لعدة اعتبارات أهمّها تقادم شبكات توزيع مياه الري و التي فاقت معظمها 40 سنة و أصبحت في حاجة إلى إعادة الصيانة والتهيئة في عدة أجزاء منها. أعطاب و إشكاليات تقنية و لوجستية تطال قنوات المياه ويتحمل نتائجها مواطنو الجهة الذين يعانون مشكل نقص المياه و انقطاعه كليا في كثير من الأحيان.
فكيف هو حال هذه المناطق؟
مواطنون يطلقون نداء استغاثة
“أنهكنا العطش.. نريد إيقاف هذه المعاناة اليومية و الدائمة، نريد حقنا في المياه، نريد عيشا كريما يكفل لنا كرامتنا الإنسانية”، هكذا رددت أحدى السيدات التي التقينا بها في منطقة “الفرانين”، بوجه شاحب و صوت منهك تحدثت لنا عن حالتها الصحية التي أصبحت في وضعية حرجة جراء تنقلها يوميا لجلب كميات كثيرة من المياه من الحنفية العمومية سيرا على الأقدام مما سبب لها ألاما على مستوى الظهر كانت نتيجتها القيام بأكثر من عملية قيصرية. و خلال لقائنا بباقي متساكني القرية، تحدثوا لنا عن معاناتهم اليومية جراء حرمانهم من أبسط الحقوق التي تعكس إنسانيتهم. وضع صعب تعيش على وقعه ما يقارب 70عائلة دون أي لفتة من السلطات المشرفة على تمكينهم من هذا الحق، و حال لا يختلف عن باقي معتمديات العطش المجاورة التي تعيش بدورها كابوس انقطاع المياه، ورغم اختلاف سماتهم بين الغضب و الحرقة و العطش، إلا أن ما جمعهم هو مطلب الحصول على مورد المياه وإيفاء السلطات بتعهداتها في تمكينهم من هذا الحق المنتهك منذ سنوات، مهددين بالتصعيد في وتيرة الاحتجاج وفق ما ردده احد مواطني الجهة حين رددّ بنبرة غاضبة “ثلاثة أشهر من الانقطاع المتواصل للماء، لا احد يعلم ما يمكن أن ينجرّ عن ذلك، ربما يدفعنا الأمر إلى إغلاق الطرقات دون اعتبار لأي مسؤول في هذه الجهة”.
مجامع مائية عاجزة عن إيجاد حلول
تتوفر بولاية نابل موارد مائية هامة سواء بالمناطق الحضرية أو الريفية كما يوجد العديد من المجامع المائية البالغ عددها 47 مجمعا يوجد منها 38 مجمع ناشط و07 مجامع غير ناشطة، كما يخضع 30 منها للفوترة من طرف المندوبية الجهوية للفلاحة حسب ما أفادنا به المدير الجهوي للفلاحة. تتوزع هذه المجامع على 15 معتمدية و تتزود من مياه الشمال ومياه الآبار العميقة والسدود والمياه المستعملة المعالجة. و رغم مساهمة جملة المجامع في إيصال المياه لبعض المناطق إلا أن نسبة من سكان المناطق الريفية خاصة بقيت تعاني العطش دون أدني لفتة من السلطات المكلفة بإيجاد بديل فعلي لربط هذه المناطق بالشبكة المائية.
المدير الفني للجمعية المائية بالفرانين “فتحي سردوك” أكد في هذا الإطار أن ما يقارب 70 عائلة بالقرية يعيشون مشكل الانقطاع المتواصل للماء الذي يصل في كثير من الأحيان إلى الشّهر، و ما يفوق 200 عائلة أخرى لا يمتلكون ربط قانوني بشبكة المياه و هذا راجع بالأساس إلى عديد الإشكاليات وأهمها صغر حجم الخزان المائي الذي لا يتجاوز خمس وعشرين متر مكعب إضافة إلى الخطأ الفني الذي تم ارتكابه لدى تركيزه بمكان منخفض مقابل وجود المساكن في مناطق مرتفعة في القرية. و رغم تدشين البئر الجديدة منذ شهر ديسمبر المنقضي و الذي قدرت كلفته ب 300 ألف دينار إلا أن صعوبات التزود بالمياه ظلت على حالها بسبب عدم تطابق البيانات الموجودة في دراسة انجاز البئر مع الواقع، وتواصل الإشكال عبر عدم قدرة البئر على ضخ كميات كافية لجميع المتساكنين التابعين له وفق ما أشار إليه الممثّل عن الجمعية المائية بالحلفاء “محمد سعيد”.
مسؤولية وزارة الفلاحة و الشركة التونسية لاستغلال و توزيع المياه
وزارة الفلاحة و الموارد المائية و الصيد البحري تبقى المسؤول الأول و الأخير عن تواصل هذه المعضلة، و بعد التجاهل و الصمت الذي أبدته جميع السلط المكلفة بتطبيق التشريعات القانونية المكرسة للحق في الحصول على مياه الشرب، فان جميع مؤسسات وهياكل الدولة المعنية بهذا الإشكال مدعوة اليوم إلى التحرك الفعلي لمجابهة هذه الأزمة، وإنقاذ هذه المناطق من العطش الذي أصبح يهدد حياتهم و أنشطتهم الفلاحية، عبر إعادة النظر في إمكانيات الشركة التونسية لاستغلال و توزيع المياه وتدخّلها العاجل من أجل إيجاد حلول للإشكاليات التي تعانيها المجامع المائية خاصة في ما يتعلق بحجم المديونية لدى الشركة التونسية للكهرباء و الغاز.