تعليق المنتدى حول المناشير الصادرة والإصلاحات المعلنة من طرف حكومة بودن
سجل المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية تعدد وتسارع وتيرة اصدار الوثائق الرسمية ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية من طرف الحكومة الحالية في الأشهر الأخيرة. ومن أبرز هذه الوثائق، الوثيقة السريّة المسربة باللغة الفرنسية بعنوان “برنامج الإصلاحات للخروج من الأزمة”[1] التي وقع توجيهها إلى صندوق النقد الدولي والمنشور حول إعداد مشروع ميزانية 2023 الصادر عن رئيسة الحكومة يوم 20 ماي 2022 والبرنامج الوطني للإصلاحات الصادر يوم 3 جوان 2022.
وقد أثارت الوثائق الصادرة عديد النقاشات والمواقف هيمن عليها شعور الاستياء والتنديد والتخوف من المستقبل ومثلت في كل الحالات تناقضا صارخا بين الخطاب الشعبوي السائد والبرامج الاقتصادية والاجتماعية المعلنة من طرف الحكومة.
وبالإضافة إلى هذا التناقض المتسبب في خيبة أمل كبيرة حتى من طرف المناصرين لعمليّة 25 جويلية 2021 يجب الإشارة إلى أهم ما يميّز كل هذه الوثائق رغم تعدّدها:
- استمرار كل هذه الوثائق أولا في التشبث بنفس منوال التنمية المتآكل والذي أصبح يمثل عائقا هيكليا كبيرا أمام تحقيق انتعاش الاقتصاد ومواجهة التحديات المعقدة والمتعدّدة والمتغيرات المترقبة بعد جائحة كورونا والصراع الروسي الأطلسي في أكرانيا. وثانيا مواصلة الانخراط الأعمى والساذج في منظومة فكريّة نيوليبرالية أصبحت محل انتقادات ومراجعات حتى من طرف مصمميها والمروّجين لها في ظل ما أدت إليه العولمة النيوليبرالية من تنامي الاحتكار في كل الميادين وتكرار الأزمات العالمية المدمرة والارتفاع المتصاعد للفوارق العالمية بين الفئات والجهات وتنامي الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في إطار التقسيم الدولي للعمل ولسلاسل الإنتاج كما كشفت عن ذلك بكل وضوح جائحة كورونا والحرب في أكرانيا.
- غياب تام للتقييم الموضوعي والجدي للسياسات المعتمدة وللنتائج المسجلة منذ 2011 مع الاقتصار على عرض تطور الاحصائيات في مجالات متعددة مثل النمو والتضخم وعجز الميزانية والمديونية العمومية والدعم وكتلة الأجور في الوظيفة العمومية وعجز المؤسسات العمومية … إلخ. وهذا العرض يهدف بالأساس إلى إبراز قتامة الوضع الاقتصادي والمالي والوضع الكارثي الناتج عن ممارسات سلطة ما قبل 25 جويلية وثقل الموروث بالنسبة للسلطة الجديدة وذلك دون أي تحليل للأسباب والمسببات على مستوى الاختيارات والسياسات والأولويات ومسؤوليات الأطراف … إلخ. وقد نتج عن غياب مثل هذا التقييم الضروري من الناحية المنهجية مواصلة التشبث بنفس الإطار التنموي وبنفس المنظومة الفكريّة النيوليبرالية.
- غياب التمشي التشاركي الواسع والاكتفاء بمساهمة الإطارات الإدارية العليا (400 إطار حسب الوثائق) في انتاج الوثائق الصادرة. وقد تسبب هذا التمشي في إعطاء الوثائق صبغة فنيّة تكنوقراطية وغياب النفس النقدي والبعد السياسي مع هيمنة السلوك الروتيني الذي يميز كل عمل بيروقراطي خاصة فيما يخص الإصلاحات المقترحة والإجراءات والسياسات المعتمدة والأهداف المعلنة. علما أن الاقتصاد هو بالأساس سياسي لأن تحديد الاختيارات الكبرى وضبط الأولويات والحرص على التوازنات الاجتماعية والاقتصادية والقطاعية والجهوية والجندرية واختيار مصادر التمويل يبقى شأن سياسي بامتياز ولا يمكن للفنيين الحسم فيها.
وغياب التمشي التشاركي والبعد السياسي أثر سلبا على مضمون هذه الوثائق التي تميّزت بغياب الأولويات والأهداف المرقمة والمراحل ومصادر التمويل باستثناء ما يخص الضغط على كتلة الأجور بالوظيفة العمومية والتخلي عن الدعم.
- كل الوثائق، رغم ما تؤكد عليه من أنها من صنع تونسي خالص ([2]« Tuniso-Tunisien ») إلا أنها مثلت بالأساس في منهجيتها ومضامينها وأهدافها رسائل مطمئنة موجهة إلى صندوق النقد الدولي المتبني والمروج الرئيسي للمنظومة الفكرية النيوليبرالية ولمفاهيمها وأدواتها وأهدافها ومشاريعها التي وقع اعتمادها لانتاج هذه الوثائق. ذلك أن كل الوثائق تعطى الأولوية للإصلاحات الهادفة إلى تحقيق استقرار التوازنات المالية الكلية (Réformes de stabilisation) من خلال الضغط على كتلة الأجور بالوظيفة العمومية ونسبتها من الناتج المحلي (أنظر بالخصوص منشور ماي 2022) ومن خلال برمجة الغاء الدعم والاكتفاء بتوجيهه إلى مستحقيه كما ورد ذلك بصفة مفصلة في الوثيقة الصادرة بالفرنسية وفي البرنامج الوطني للإصلاحات. بجانب هذه الملفات وقع الالتزام بإصلاح المؤسسات العمومية في اتجاه الحد من حجمها وفي غياب تحديد دورها التنموي وجعلها مؤسسات ككل المؤسسات فاقدة لأي دور متميز في النسيج الاقتصادي خاصة في ظل تخلي الدولة عن ضبط سياسات قطاعية في الميدان الصناعي والفلاحي منذ اصدار المجلة الموحدة للاستثمار سنة 1993 وذلك تطبيقا لمفهوم نيوليبرالي ينادي بحياد الدولة والسياسات العمومية والذي وقع إعادة تكريسه في قانون الاستثمارات سنة 2017 مع الاكتفاء بتقديم مزيد الامتيازات الجبائية والمالية وتحسين مناخ الأعمال مع ترقب ما سيؤول اليه رد فعل السوق والقطاع الخاص. علما أن نسبة الاستثمارات ما فتئت تتراجع رغم الامتيازات المالية والجبائية التي مثلت سنة 2019 أكثر من 5من الناتج المحلي الإجمالي. ولكن رغم هذه النتائج السلبية تستمر نفس السياسات ويستمر نفس الترقب لكي ينجز منطق السوق المعجزات الموعودة.
- ما يسمى بالبرنامج الوطني للإصلاحات يمثل في الحقيقة وفي أحسن الحالات مجرد برامج عمل لمختلف الوزارات وقع تقديمها بتفاصيل وجزئيات مملة في غياب طرح جدي للاشكاليات الكبرى التي تمثل عراقيل هيكلية خطيرة للعمل التنموي مع غياب ضبط استراتيجيات طموحة وواضحة وعملية لمعالجتها. ومن أهم هذه الإشكاليات التي كانت من المفروض أن تمثل محاور الإصلاحات التي تبني على أساسها الاستراتيجيات الوطنية وتحدد من خلالها أدوار الوزارات المختلفة مع ضبط أدوات التنسيق بينها وتحديد الأولويات والأهداف والمراحل ومصادر التمويل يمكن ذكر: الزحف المتصاعد للاقتصاد الموازي tendance à l’informalisation de l’économie والمنحى التراجعي الخطير للتصنيع tendance à la désindustrialisation والعجز المائي المتنامي والمرشح للاستمرار بأكثر حدّة في ظل التحولات المناخيّة الخطيرة والمتسارعة وتنامي العجز الغذائي الذي يشمل بالأساس مكونات الأكلة الأساسية لأغلب شرائح المجتمع بالإضافة إلى تنامي العجز الطاقي، علما أن الطاقة تمثل المحرك الأساسي لكل الأنشطة الاقتصادية. وانطلاقا من هذه الإشكاليات كان بالإمكان ضبط استراتيجيات واضحة واعتماد تمشي ارادي قائم على مشاركة وتعبئة كل الأطراف مع ضبط دور كل طرف وتحديد الأهداف ومراحل الإنجاز.
إلا أن الوثائق كانت منشغلة بالأساس بالتوازنات المالية الكليّة مع اهمال تام للبعد التنموي وغياب كلي لتمشي ارادي والاكتفاء باعتماد تمشي إصلاحي قائم بالأساس على اصلاح الأطر التشريعية والترتيبية والتنظيمية والمؤسساتية بجانب تقديم مزيد من الإعفاءات والامتيازات الجبائية والمالية قصد تحفيز المبادرة الفردية وتحسين مناخ الأعمال مع الاكتفاء بترقب النتائج التي ستحصل عن منطق السوق وسلوك الأفراد. علما أن هذا الترقب الممل والساذج قد طال أمده في ظل غياب التقييم الجدي والحلول البديلة.
والجدير بالتذكير أن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية كان دائما يحذر من خطورة الاستمرار في اعتماد اختيارات فاشلة وموارد مالية خارجية متصاعدة ومفاهيم وسياسات خاطئة قادت إلى حد الآن إلى اندثار خطير، مستمر ومتنامي لكل مقومات التنمية من تهريب الموارد الماليّة وخسارة الموارد البشرية عبر تنامي هجرة الكفاءات الحيوية والهجرة غير النظامية بجانب تراجع الموارد الطبيعية الرئيسية عبر تنامي العجز المائي والطاقي والغذائي بالإضافة إلى تراجع آداء المؤسسات التي أصبحت تمثل عنصر أساسي لدفع نسق النمو ودعم مسار التنمية.
والمنتدى يعتبر أن الاستمرار في توخي الاختيارات والسياسات الفاشلة يؤكد بالأساس عن تغول المافيات واللوبيات والكناطرية وعن قدرتهم على إعاقة الإصلاحات الجدية أمام ضحالة الطبقة السياسية وتفكك الدولة وتراجع دورها وآدائها ومصداقياتها، مما يجعل من الإصلاح الإداري والمؤسساتي ومن اعتماد تمشي ارادي في مجال التنمية من الأولويات والضروريات القصوى.
والمنتدى انطلاقا من قراءته للوثائق المشار إليها يؤكد من جديد على ضرورة:
- اتخاذ إجراءات استثنائية وصارمة لمزيد تعبئة موارد عمومية إضافية من جهة والعمل على الحفاظ على مستوى مقبول للمدخرات الصافية بالعملات الأجنبية.
- عدم الاكتفاء بإجراءات تهدف إلى تحسين التوازنات المالية الكلية لأنها لا تقود آليا إلى إنعاش الاقتصاد والرفع من نموه كما تؤكده التجربة التونسية منذ تطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي سنة 1986.
- ضرورة التركيز على الاستثمارات العمومية لكي تلعب دور القاطرة لأن تقديم الامتيازات المالية والجبائية لا تكفي لتحفيز الاستثمار الخاص في ظل الوضع الحالي الذي تمر به البلاد كما أكدته نتائج العشرية الماضية.
- اعتماد أولويات محددة وواضحة في ظل محدودية الإمكانيات. والتطورات الأخيرة تؤكد ضرورة إعطاء الفلاحة والسيادة الغذائية أولوية مطلقة بجانب التركيز على انجاز التحول الطاقي بكل جديّة والنهوض بالبيئة خاصة فيما يخص ملف الفضلات الذي أصبح محل استياء عارم في عديد الجهات.
- فتح حوار جدي حول بديل تنموي لأن المنوال الحالي تآكل ولا يمكن له أن يحقق الانتعاشة الاقتصادية في المستوى المطلوب ولا يمكن من رفع التحديات ومواكبة التحولات المترقبة سوى كانت المناخية أو الناتجة عن جائحة كورونا والحرب في أكرانيا.
المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية
الرئيس عبد الرحمان الهذيلي
[1] Programme de Réformes pour une sortie de crise
[2] نعت ورد في الصفحة الأولى من وثيقة