بيان: تباين شاسع وصارخ بين ميزانية صندوق النقد الدولي وإرادة صندوق الاقتراع

تونس في 25 أكتوبر 2019

تباين شاسع وصارخ بين ميزانية صندوق النقد الدولي وإرادة صندوق الاقتراع

                مشروع الميزانية العمومية لسنة 2020 وقع طبخه وإعداده في ظروف اتسمت بانكباب الطبقة السياسية على الاستعداد لمواجهة محطات انتخابية رئاسية وتشريعية سابقة لأوانها.

                ومرة أخرى كشفت نتائج الانتخابات القطيعة العميقة بين هذه الطبقة والمجتمع. هذه القطيعة تبرز بصفة جلية عبر التباين الشاسع والصارخ بين محتوى مشروع ميزانية يعكس بالأساس اختيارات واملاءات صندوق النقد الدولي من جهة والإرادة الشعبية القوية والصارخة التي أفرزتها نتائج صندوق الاقتراع للقطع مع السياسات والخيارات القائمة التي فشلت في تحقيق مطالب واستحقاقات الثورة من جهة أخرى.

                هذه الارادة وقع التعبير عنها على مستوى الانتخابات التشريعية وبالخصوص على مستوى الانتخابات الرئاسية من خلال الفارق الهام بين نسبة الاقبال الضعيفة على الانتخابات التشريعية والنسبة العالية المسجلة في الانتخابات الرئاسية بجانب التعبئة الهامة والاستثنائية للفئات الشبابية التي اختارت تدعيم مرشح للانتخابات الرئاسية ينادي بثورة جديدة عبر ارجاع السلطة للشعب بعد فشل الطبقة السياسية في تحقيق وعودها، ومقاومة الفساد والإقرار بعلوية القانون ورد الاعتبار للدولة لإقامة العدل والنهوض بالمسألة الاجتماعية مع التشبث بالقيم الأخلاقية ونظافة اليد في العمل السياسي.

وقد أكد ضعف الاقبال على التصويت في الانتخابات التشريعية وتشتت الأصوات بين قوى سياسية غير متجانسة على فقدان الثقة في مجلس الشعب وفي النظام السياسي القائم ورفض الممارسات الحزبية الكراكوزية المخجلة والصراعات السياسية العقيمة حول قسمة الغنيمة والاختيارات الاقتصادية والاجتماعية اللاشعبية والفاقدة لكل بعد تنموي واعد. أما الاقبال الهام للشباب على الانتخابات الرئاسية لحسم الدور الثاني تحت شعار “الشباب يريد الثورة من جديد” فقد عبر عن رغبة عارمة للرجوع الى نقاوة اللحظة الثورية الأولى لتكريس استحقاقاتها وطموحاتها وقيمها.

                بعد أن عبر الشعب بصفة حضارية وسلمية عبر نزوله الى الشارع سنة 2011 عن رغبته في التحرر وفي الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية هاهو يعبر مرة أخرى سنة 2019 بنفس الصفة عبر صندوق الاقتراع عن نفس الرغبة.

                لكن بالرجوع الى ميزانية 2020 نلاحظ استمرار الهوة وتوسعها بين الطموحات الشعبية وبين الاختيارات الواردة في هذه الميزانية التي تتميز:

  • بتواصل واستمرار اعتماد سياسات تقشف طبقا لاملاءات وشروط صندوق النقد الدولي الواردة في اتفاق القرض الممدد المبرم سنة 2016. وهذا الاستمرار نلاحظه من خلال برمجة اجراء تعديلات لأسعار بيع المحروقات للعموم سنة 2020 (رغم أن الأسعار العالمية للنفط بقيت دون فرضية 75 دولار للبرميل الذي وقع اعتمادها في قانون المالية لسنة 2019) قصد التقليص من نفقات الدعم التي ستبلغ 4180 م.د موزعة على 1800 م.د دعم المواد الأساسية (الذي سيقع التخلي عنه لاحقا وتوجيهه لمستحقيه الذين أصبح عددهم يتصاعد باستمرار نتيجة تراجع الطبقة الوسطى وتدهور المقدرة الشرائية) ورصد 1880 م.د بعنوان منحة دعم المحروقات لسنة 2020 أي بانخفاض قدره 658 م.د بالمقارنة مع التقديرات المحينة لسنة 2019 ومثل هذا الاجراء سينتج عنه حتما ارتفاع أسعار النقل والكهرباء وعديد الخدمات والمواد المستهلكة للطاقة مع تدهور القدرة الشرائية لشرائح عديدة من المجتمع. والمعلوم أنه نتيجة لانعدام اختبارات استراتيجية واضحة في مجال الطاقة فان ارتفاع استهلاك الغاز والنفط بالتوازي مع انخفاض الانتاج والاعتماد المتزايد على الواردات قد أدى الى تفاقم خطير للعجز الطاقي حيث أصبح الانتاج الوطني لا يغطي الا 38% من الطلب المحلي سنة 2018 مقابل 61% سنة 2000.

  • كما أن استمرار سياسات التقشف تبرز من خلال الضغط على الانتدابات الجملية المبرمجة سنة 2020 والتي سوف لا تتجاوز 7720 انتدابا رغم الحاجيات الهامة لبعض القطاعات الاجتماعية الحساسة مثل قطاع التربية والصحة والتكوين المهني والثقافة… مثل هذا الاجراء يندرج في البحث المحموم على تقليص نسبة حجم الأجور من الناتج الوطني الخام الى مستوى 12.5 المتفق عليه منذ سنة 2016 رغم أن هذا الهدف بقي صعب التحقيق في ظل ارتفاع نسبة البطالة التي تتجاوز 15% منذ سنوات وفي ظل الضغط المتصاعد على الطلب الداخلي في غياب آفاق واعدة للنهوض الجدي بالصادرات عبر الرفع من الانتاجية ومن انتاج الفسفاط ومشتقاته وانتاج النفط وتنويع الأسواق وتحسين جودة الانتاج والخدمات الخ… علما أن هذا الضغط على الطلب الداخلي المتزامن مع تعثر الصادرات من شأنه أن يساهم في الحد من نسبة نمو الانتاج والاستثمار والتشغيل.

 

  • مواصلة الاقتصار على ضبط المداخيل والنفقات وسياسات التوازنات الكلية مع الحرص على الحد من عجز الموازنة الى 3% مقابل حوالي 5% سنة 2019 بدون أي نفس اصلاحي أو تنموي. علما أن نسبة النمو المحينة ستكون في حدود 1.4% سنة 2019 (للتذكير فان ميزانية 2019 كانت تهدف الى تحقيق نسبة نمو ب 3.1%) رغم موسم فلاحي استثنائي في مجال الحبوب والزيت ورغم الانتعاشة الهامة لقطاع السياحة بجانب ارتفاع تحويلات التونسيين المهاجرين.

  • مواصلة الحد من نفقات التنمية رغم ضعف الاستثمار الخاص وضعف نسبة النمو التي حددت ب 7% سنة 2020. علما أن هذه النفقات ستبلغ 6.9 مليار دينار سنة 2020 نصفها فقط سيخصص للاستثمار. والجدير بالذكر أن هذا التعامل غير المسؤول مع قضايا التنمية يتزامن مع تراجع خطير للاستثمارات المصرح بها منذ بداية 2019سواء كان ذلك في الصناعات المعملية أو في قطاع الخدمات. علما أن هذا التراجع يقع تسجيله رغم اصدار قانون الاستثمار الجديد ورغم كل الاجراءات والندوات المخصصة لتشجيع الاستثمار. لكن هذا التناقض لم يحضى حتى بمجرد الاشارة في مشروع الميزانية.

  • مواصلة الاقتراض الذي شهد ارتفاعا متزايدا سيبلغ 11.218 مليار دينار سنة 2020 منها 8.818 مليار من الخارج و 2.400 مليار من الداخل. علما أن قيمة خدمة الدين العمومي ستتجاوز حاجيات الاقتراض لتبلغ 11.678 مليار دينار أي ما يمثل حوالي ربع الميزانية وقرابة ضعف ميزانية التنمية. وهذا اللجوء المتكرر والمتصاعد الى التداين العمومي هو نتيجة غياب العزيمة والجدية في اعتماد اصلاح جبائي يمكن من توزيع عادل للعبء الجبائي ومن الحد من الامتيازات الجبائية ومن مقاومة التهرب الضريبي ومن اخضاع القطاع غير المنظم الى المساهمة الجبائية ومن مقاومة تهريب الأموال. ومن المؤسف أن يقع تبرير غياب مثل هذه السياسات منذ 2011 بدعوى أن مردودها المالي لا يمكن أن يتحقق إلا على المدى المتوسط والطويل. وفي الحقيقة فان مثل هذا الغياب هو ناتج عن رفض اللوبيات وأباطرة الفساد والمستفادين من الأوضاع القائمة لكل نفس اصلاحي بجانب تداخل المال والسياسة وانتشار الفساد. وفي ظل استمرار هذه الأوضاع فان نسبة مساهمة الموارد الذاتية في تمويل الميزانية وفق الفرضيات المعتمدة سوف لا تتجاوز 77% سنة 2020 علما أن المعايير المعمول بها تفترض بلوغ موارد الدولة الذاتية نسبة 85% من تمويل الميزانية. وفي غياب تحسين هذه النسبة فان النتيجة تكون اللجوء المستمر الى التداين العمومي بتكاليف متصاعدة نظرا لضعف نسق النمو ولتفاقم الاختلالات الكلية وللتراجع المستمر لترقيمنا السيادي ولتواصل الضبابية حول آفاق التنمية في تونس.

مثل هذا المشروع لميزانية 2020 يؤكد مواصلة السلطة القائمة على الاكتفاء بتطبيق املاءات وشروط المؤسسات المالية العالمية والاقتصار على تصريف الأعمال في قطيعة تامة مع الانتظارات الشعبية وطموحاتها في تحقيق تنمية بديلة ببعديها الوطني والاجتماعي. ومرة أخرى يؤكد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية على ضرورة العمل على بلورة بديل تنموي واضح المعالم والاختيارات والأولويات، قادر على رفع التحديات، يستجيب للانتظارات الشعبية ويوفر المرجعية الضرورية لكل ميزانية عمومية.

المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية

الرئيس عبدالرحمان الهذيلي

تسجيل الدخول إلى Al-Forum

أنشئ حسابك

نحن نستخدم كوكيز

نحن نستخدم ملفات الكوكيز لجعل تجربتك أفضل