أزمة الصرف الصحي بأم العرائس: حقوق بيئية خارج التغطية
رحاب مبروكي
فرع الحوض المنجمي للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية
ما يزيد عن 30 ألف[1] مواطن بمعتمدية أم العرائس يواجهون أزمة شبكة الصرف الصحي منذ أكثر من ثلاث سنوات. و أنت تجوب أنهج المدينة مرورا بحي الكسيلة تتراءى لك برك مياه عادمة يميل لونها إلى الرمادي جراء تسرب بعض حبيبات الفسفاط التي تنثرها الشاحنات المارة يوميا، روائح كريهة تخترق الأنوف و بقايا فضلات تنتشر فوق المياه راسمة لوحة تراجيدية هي أقرب ما تكون للموت، ليس هذا فحسب فالعرض الأليم مستمر و كلما اقتربت من المكان ستشتكي لك بعض الشجيرات عذابها رغم انتصابها على ركام من النفايات و كأنها تتحدى المشهد الأليم لتنبت حياة داخل مستنقع من الموت.
“صحتنا و صحة أبنائنا في خطر، على السلطات إيجاد حل جذري لهذه المعضلة”هكذا ردد أحد المواطنين الذين التقينا به على مقربة من تجمع مياه الصرف بحي الكسيلة، تحدث لنا بنبرة تشي بتفاصيل معاناة الأهالي اليومية مع مشكل الصرف الصحي مطالبا السلطات المحلية بضرورة التحرك من أجل وقف سيلان الموت الذي غدا يهدد حياة سكان المنطقة. لكن تظل الأزمة على حالها في ظل غياب دور الهياكل المعنية في القيام بمهامها القانونية و على رأسها شبكة تطهير المياه رغم الإصرار الدستوري منذ عهد دولة الاستقلال و إلى حد اليوم على محاربة التلوث البيئي بجميع أشكاله.
و يبقى السؤال الأكثر غموضا كيف أصبحت شبكات الصرف الصحي بهذا الحال؟؟ و أين دور الدولة و سلطات الإشراف في حماية حق المواطنين في بيئة سليمة و ظروف عيش متوازن؟
تصدع للحقوق رغم إلزامية القانون
حددت تونس ترسانة قانونية لحماية الحقوق البيئية للأفراد و المجتمع[2] وللاستجابة للمشاكل التي تقتضي التدخل الفوري للحد من أخطار التلوث بجميع مناطق الجمهورية، فتمت دسترة هذا الحق في الفصل 45من الدستور التونسي الذي يضمن حق المواطنين في بيئة سليمة و متوازنة و تعهدت الدولة بتوفير الوسائل الكفيلة للقضاء على التلوث البيئي. و يأتي هذا الإقرار الدستوري في سياق قانوني لحماية المحيط تمثل خاصة في إصدار القانون المتعلق بإحداث الديوان الوطني للتطهير منذ سنة 1974 [3]ومصادقة الجمهورية التونسية على عدد كبير من الاتفاقيات و المعاهدات و البروتوكولات الدولية الخاصة بحماية البيئة بمختلف مكوناتها.
فإقرار الحقوق البيئية لم يكن إلا اعترافا بأهمية تحقيق العدالة البيئية كما أن محاربة التلوث بجميع أشكاله ما هو إلا إرساء لبناء لسبل جديدة لتحقيق وضع بيئي أفضل مما هو عليه، و لا يمكن أن يكون كذلك ما لم تتوفر الضمانات القانونية و المجتمعية المناسبة فضلا عن كون إقرار الحق في بيئة سليمة شرطا لازما للرقي الحضاري في إطار مجتمع متقدم و دولة وطنية تولي اهتماما للبيئة كاعترافها بحقوق أفرادها و احترامها لإنسانيتهم.
و رغم هذا الإصرار الدستوري على تحسين الوضع البيئي و محاربة التلوث ، لم تحض القضايا البيئية في مدن الحوض المنجمي مثل مشاكل انسياب مياه الصرف الصحي داخل الأحياء السكنية بأولوية في عمل السلطات المحلية و الجهوية التي أبدت ضعفا في ترسيخ السياسات المناهضة لخطر التلوث البيئي. الأمر الذي أدى إلى تعالي الأصوات المنادية بضرورة إيجاد حل لهذا الإشكال من منطلق المسؤولية القانونية و الاجتماعية التي أصبحت من الملح أن تفرض على الدولة بشكل عام و على هياكل الإشراف بشكل خاص كونها جزء لا يتجزأ من الدولة.
مستنقعات الموت
قد لا يعلم كثير من الأهالي بمدينة أم العرائس بان العام الجاري يشهد بانقضاء أكثر من أربعة عقود على إصدار أول قانون متعلق بإحداث ديوان وطني للتطهير بالجمهورية التونسية و الذي أوكلت له مهمة تجديد و صيانة مصارف ومجمعات المياه الموجودة بالمناطق البلدية، لكن ما يعلمه الجميع هو أن شبكة الصرف الصحي بالجهة متهالكة و حالها لا يختلف عن باقي الخدمات التي يحصلون عليها من الدولة. و تبقى شبكة الموت هذه شيئا لا يتعامل معه مسئولو الجهة بشكل مباشر لكونها عالما معظمه تحت الأرض، أما ما فوقها فيعيش معه سكان الأحياء المتاخمة لأماكن انسياب مياه الصرف ليصبح جزء من معاناتهم اليومية.
و شهدت المدينة على مر السنوات الأخيرة و إلى حد اليوم مئات من النداءات أطلقها المواطنون بسبب انسياب مياه الصرف الصحي التي أشبعت الأرض و فاضت لتصبح مصدرا لانبعاث الروائح الكريهة و لتؤكد مرة أخرى على تصدع حقوق الأهالي في التمتع بوضع بيئي سليم ضمنه لهم دستور البلاد، ورغم مطالبة الكثيرين السلطات المحلية بإيجاد حل لهذا الإشكال من اجل تخفيف المخاطر الصحية و البيئية للتجمعات السكانية المحيطة بمستنقعات المياه العادمة، إلا أن الوضع بقي في حالة حرجة مما يستوجب تدخلا عاجلا من السلط المشرفة . و عن سؤال منذ متى هذا الوضع الكارثي قائم يجيب العم سالم و هو من متساكني حي الكسيلة قائلا “هكذا هو الوضع منذ سنوات، منذ أخر تدخل لهياكل الدولة لتنظيفه ومنذ ذلك الحين اتخذت السلطات موقف المتفرج أمام شبح التلوث الذي ينهش أمال المتساكنين في واقع بيئي سليم”.
أما العمة فاطمة فرأيها لا يختلف عن الكثيرين مما التقينا بهم و التي اعتبرت بأن مصالح التطهير هي المسئول الأول و الرئيسي في تفاقم هذه الأزمة البيئية خاصة خلال فصل الصيف مع انتشار العديد من الحشرات.
سلط الإشراف تتجاهل الوضع
ينص القانون عدد 30 لسنة 2016 المتعلق بمخالفة تراتيب حفظ الصحة بالمناطق الراجعة للجماعات المحلية[4] في الفصل الثالث على أن تقع معاينة المخلفات والجنح لتراتيب حفظ الصحة والنظافة العامة من قبل مأموري الضابطة العدلية المحلفين والمؤهلين للغرض والأعوان المحلفين والمؤهلين للغرض. لكن و رغم الترسانة القانونية التي وضعها المشرع التونسي للحفاظ على حقوق الأفراد البيئية و ترسيخ قيم العدالة البيئية إلا أن سياسة التنصل من المسؤولية و تقديم أنصاف الحلول كانت حاضرة بقوة في تعامل السلطات المحلية مع هاته المعضلة البيئية ليظل الوضع على حالته الحرجة.
الناطق الرسمي لبلدية أم العرائس السيد ونيس بن يونس أكد في مقابلة أجريناها معه أنه و منذ تركيز المشروع الأول للتطهير بأم العرائس في التسعينات لم يتم إلى حد اليوم إعادة صيانة و تجديد هذه الشبكة التي من الواضح أن جل قنواتها تهالكت و أعدمت نتيجة الضغط الحاصل في تصريف المياه باعتبار أن تركيزها منذ البداية كان على عدد معين من السكان، و مع النمو الديمغرافي للمنطقة و تزايد الأربطة المنزلية بقنوات الصرف الصحي أصبح هناك ضغطا على القنوات مما سبب أعطابا في الشبكة كانت نتيجتها انسياب المياه المستعملة و إغلاقها للطرقات داخل الأحياء و المناطق السكنية، و تجمعها في برك راكدة لتصبح عاملا رئيسيا في انتشار مختلف الأمراض لا سيما في ظل ما تمر به البلاد اليوم من وضع صحي حساس مع انتشار فيروس كورونا ما يستلزم الحرص على نظافة المكان للحفاظ على صحة سكان المناطق المجاورة له.
و أشار في ذات السياق بأن من أسباب وصول الوضع إلى الحالة تلك هو حصول خطأ تقني في تركيز القنوات بحي الكسيلة على مستوى درجة الانحدار مما ساهم بشكل مباشر في تجمع المياه على شكل برك و مستنقعات.
مسؤولية مشتركة و حلول في الأفق
26مليار هي تكلفة انجاز و بناء محطة التطهير المزمع انجازها في غضون السنوات الثلاث القادمة بمدينة أم العرائس حسب ما أدلى به رئيس البلدية السيد محمود عيساوي، فمنذ تركيز المجلس البلدي صار إجماع على أهمية مشكل التطهير و في هذا الإطار تم الاتفاق على ضرورة تركيز محطة تطهير جديدة بتمويل ألماني بمنطقة “واد الحاشي” مع الحرص على ربط كامل أحياء المنطقة بالشبكة المزمع انجازها، علما و أن هنالك عديد الأحياء من المدينة مثل “حي الزهور” لم تصلهم شبكات الصرف الصحي إلى حد اليوم.
لكن، و إلى حين انجاز المشروع هل ستظل شبكة الصرف الصحي بكل من حي “الكسيلة” و “واد السلوى” على حالها؟؟ و هل من تدخل فوري لوقف معضلة التلوث التي أقلقت سكان المنطقة ؟؟
سؤال يجيبنا عنه السيد ونيس بن يونس معتبرا أن المسؤولية مشتركة بين شبكة التطهير التي تجاهلت الوضع تماما و لم تبدي أي تدخل لتحسين الوضعية، و البلدية التي أبدت إخلالا في تطبيق دورها القانوني خاصة خلال الظرف الحالي الذي تمر به البلاد عبر تقصيرها في رفع النفايات العالقة بمكان الصرف الصحي.
في مدن المنجم تضرب حقوق المواطنين على عرض الحائط و يفتك منهم أبسط ما يترجم إنسانيتهم. تداخل في المسؤوليات و أنصاف خطوات في تحسين الوضع البيئي للمنطقة، لتكون النتيجة وضع ينذر بكارثة ايكولوجية و أخطار صحية يواجهها الأهالي يوميا. و مع ما تمثله هذه الوضعية من معضلة حقيقية إلا أن الحكومة تتجاهلها في كل موازنة و تعتبرها أزمة غير طارئة دون إدراك بأن الصرف الصحي سبب مباشر في انتشار أمراض عدة.
[1] http://www.onj.nat.tn/stat-rasd/omel3rays.pdf
[2] https://www.legal-agenda.com/article.php?id=873
[3] http://www.environnement.gov.tn/index.php?id=79&L=2#.XpWxxZngqUk
[4] http://www.legislation.tn/detailtexte/Loi-num-2016-30-du-05-04-2016-jort-2016-030__2016030000301