تنامي العنف في الوسط الأسري: نساء قفصه ضحايا !
رحاب مبروكي
“إن اللاعنف هو أعظم قوة في يد البشرية، وهي أقوى من أعتى أسلحة الدمار الذي اخترعها العقل البشري” هكذا عبر المهاتما غاندي عن قوة اللاعنف في تحقيق السلم والأمن لمختلف الشرائح المجتمعية. تسود في تونس وفي ولاية قفصه بالتحديد ظاهرة العنف المنزلي أو الأسري والذي تتعرض له في الكثير من الأحيان النساء والأطفال مما يهدد أمن وكيان الأسرة والمجتمع على حد السواء، وتعكس هذه الظاهرة حالة الإقصاء الاقتصادي والاجتماعي التي تعيشه هذه الفئات في تواصله وتعمقه وإفرازه لظواهر وحالات تهميش شديد وتداعيات ثقيلة تتحملها هذه الفئة من المجتمع، حيث تقدر منظمة اليونيسيف أن أكثر من 80 بالمائة من الأطفال في تونس يتعرضن للعنف داخل الأوساط الأسرية [1] وفي إحصائيات تقدمت بها منظمة الصحة العالمية تفيد بأنه ” من بين كل ثلاث نسوة في العالم تتعرض واحدة على الأقل في حياتها للضرب أو الإكراه على الجماع أو لصنوف أخرى من الاعتداء والإيذاء”[2]
العنف ضد الأطفال[3]
تشريعات متناقضة مع الواقع
منذ أكثر من نصف قرن وجدت النساء في تونس أنفسهن صلب معركة طويلة لافتكاك حقهن في المساواة وعدم التعرض للعنف، معركة يكتسيها ما يكفي من التناقض بين ما كرسته التشريعات والقوانين والدستور والاتفاقيات والمعاهدات العالمية التي أمضت بشأنها البلاد التونسية وأهمها الاتفاقية العالمية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة سيداو[4] باعتبار أن العنف هو أقسي أشكال التمييز الذي يمارس على النساء، وبين واقعهن الذي رسمته لهن النواميس الاجتماعية والعادات وثقافة التعايش مع العنف في الأوساط الاجتماعية التي يعشن داخلها والتي تجعل من العنف تجاه النساء ضرورة حتمية ما على المرأة إلا التطبيع معها لضمان استمرار زواجها أو للحفاظ على “استقرارها العائلي”. ولاية قفصه في الجنوب الغربي لتونس تعيش على وقع هذه الظاهرة والتي رغم استفحالها بشكل يدعو إلى القلق إلا أن أغلبية النساء اللاتي يتعرضن إلى العنف الممارس عليهن أو على أطفالهن يفضلن الصمت في هذه المناطق وعدم التوجه إلى الوحدات الأمنية أو القضاء لإنصاف أنفسهن وإفتكاك حقوقهن التي ضمنها لهن الدستور. وهذا ما أرجحته الباحثة والمختصة في علم الاجتماع رحمة بن سليمان إلى القوانين الردعية التي تبدو قاصرة نسبيا على الردع والحد من شتى أنواع العنف المسلّط على حد تعبيرها، بشكل يجعل المرأة في كثير من الأحيان تسعى إلى تبرير العنف المسلط عليها. وأكدت على أن هناك العديد من النساء من تعتبر أن هذا السلوك ما دام صادرا عن الزوج أو الأخ أو الأب لا يمكن أن ندينه مثل ما يتم تداوله على ألسنتهن ” هو زوجي وسندي وأب أبنائي” أو ” يضربني ويضرب عليا” أو ” مالو إلاّ راجل” فأغلبها تمثلات مستمدة من المنظومة الثقافية تمظهرت في شكل أمثلة شعبية عديدة ومتعددة وكلها تمّ تمريرها من خلال التنشئة الاجتماعية الأولية للطفل انطلاقا من العائلة مرورا بالمدرسة، مع العلم أن هاته المرحلة بالذات يتم فيها تحضير عملية بناء شخصية الطفل وصقل ذاته واكتشاف هويته حسب قولها.
العنف الأسري في ولاية قفصه: ظاهرة خطيرة ومتواصلة
أن تقتل إنسانا دون جريمة، أن تشوه إنسانا و تلحق به كثيرا من الضرر، أن تجعل شخصا يعاني بسببك ألاما بشعة لا يمكن إصلاحها هكذا هو العنف، هذا الفعل الإجرامي الذي تحدثت عنه القوانين والدساتير والتشريعات والمواثيق والاتفاقيات الدولية والذي تم تعريفه من منظور حقوق الإنسان بأنه “الاستخدام المتعمد أو التهديد بالاستخدام للقوة الجسدية (المادية) أو السلطة ضد شخص أو ضد مجموعة أو مجتمع مما يترتب عنه أو من المحتمل أن يؤدي إلى الإصابة أو الوفاة أو إلى ضرر معنوي أو ضعف في النمو والحرمان” وهذا ما يشمل حزمة كاملة من الأفعال أو الأقوال أو السلوكيات المتراوحة بين الضرب والشتم و الإهانة متضمنة كذلك العنف النفسي والرمزي والجنسي والاقتصادي عبر الحرمان من المداخيل. ورغم نيل بنود وأحكام مجلة الأحوال الشخصية استحسانا وطنيا وعالميا حيث سادت الانطباعات والتقييمات المثمنة لها منذ إصدارها والتي أكدت على ترسيخ ثقافة حقوق المرأة المتكاملة وعدم المساس بحقها في العيش كمواطنة متساوية مع الرجل وهي الصفة التي منحها لها دستور البلاد. لكن ذلك لم يمنع تنامي ظاهرة العنف التي لا تفتك تتمادى وتختلف أشكالها بتغير محدداتها الاجتماعية والثقافية.
العنف ضد النساء [5]
حالات من الواقع
رفيقة، المرأة الثلاثينية أصيلة مدينة الرديف إحدى المدن المنجمية بولاية قفصه ، بعيون دامعة وصوت مبحوح روت لنا تفاصيل المعاناة التي تعيشها مع زوجها، حيث تتعرض للعنف بصفة يومية، عنف بمختلف أشكاله مادي ومعنوي، وهو ما دفعها إلى الانفصال والهروب من واقعها إلى بيت والديها المتوفيان مع أطفالها، لكن العنف بقي يلاحقها إذ تعرضت له من أخيها القاطن بمنزلهم. رفيقة هي واحدة من آلاف النساء من هذه المناطق اللاتي يتعرضن للعنف اليومي من أزواجهن أو أبائهن أو إخوتهن ورغم ذلك يفضلن الصمت وعدم التوجه إلى الهياكل المكلفة قانونيا بحمايتهن من هذا الشكل التمييزي. ومن الحالات التي اهتز لها الرأي العام طفلة 08 القاطنة بمعتمدية أم العرائس والتي تتعرض لجميع أشكال العنف والتعذيب من طرف زوجة أبيها وقد تم التفطن إليها اثر إعلام ممرضة تعمل بالمستشفى المحلي بمدينة أم العرائس من ولاية قفصة، حيث قامت بإعلام الوحدات الأمنية بالجهة باستقبالها لطفلة قاصر تحمل أثار حروق واضحة بجسدها وكانت حالتها خطيرة ليتم تحويلها إلى المستشفى الجهوي بالمتلوي و قد تبين من خلال الأبحاث المجرات أن زوجة أب الطفلة دأبت منذ فترة على تعذيبها، وكانت عرضة للاعتداء منذ كانت في سن الأربع سنوات، قبل أن تعمد مؤخرا إلى حرقها بأنحاء من جسدها.
التفسير السوسيولوجي للظاهرة
لا شك أن تنامي ظاهرة العنف الموجه إلى المرأة في قفصه لها أسبابها وعواملها وتداعياتها المجتمعية ، ولا يمكن فهمها بمعزل عن السياق الاجتماعي والثقافي والاقتصادي للمجتمع الذي يعيش على وقع تزايد وتيرة العنف. وفي هذا السياق تؤكد المختصة في علم الاجتماع رحمة بن سليمان بأن “تنامي ظاهرة العنف في جهة معينة من جهات الجمهورية –منطقة أم العرائس- بولاية قفصة، والتي تتميّز بخصوصيات محليّة وثقافية “محافظة” إلى حد يجعل من المرأة، وبطريقة لا واعية، تقبل العنف المسلّط ضدها في الفضاء العام وأحيانا نجدها حتى وإن رفضت فستضطر للصمت والكتمان حتى لا تتمّ إدانتها من المجتمع وحتى من المقربين إليها من الرجال. واعتبرت محدثتنا أن ذلك “يعيدنا لدائرة تمثل العنف واستبطانه ويأخذنا لنفهم بأن الرجل ومن خلال مختلف الصور الذهنية التي تبرز في سلوكه وأفعاله وردة فعله تجاه العنف المسلّط على المرأة في الفضاء العام كما الخاص، هو بدوره يبحث عن تشريعات أخلاقية للعنف وإرجاع أسباب تعرضها للعنف للباسها وسلوكها وتصرفاتها محاولا إدانتها في كل مرة وتحميلها مسؤولية ذلك حتى وإن تعرّضت للاغتصاب والتحرش، متعمّدا غض الطرف على أن جميعهن بمختلف توجهاتهن يتعرضن بشكل يومي للاعتداءات والانتهاكات الجنسية بشتى أنواعها وهو ما يؤكّد تلك الصورة النمطية المتداولة والمتوارثة عن المرأة كامرأة مهما كانت تمظهراتها في الفضاء العام أو الخاص. وهذا يعود بنا لنؤكّد على دور التنشئة والتكوين التربوي المتوارث في تحديد صورة المرأة التي يسوّق لها المجتمع من جهة وصورة الرجل من جهة أخرى.” ودعت بن سليمان إلى أن الحل يكمن في إعادة قراءة من أجل وضع استراتيجيا توعوية تقوم بعملية تحسيس بخطورة العنف ضد المرأة والتنبيه لمسألة استبطان العنف وتبريره خصوصا، مع ضرورة مراجعة مختلف طرق التنشئة الاجتماعية الأولية خاصة للتقليص من تبرير شتى أشكال العنف المسلط على النساء في مختلف الفضاءات العامة والخاصة الجسدي والرمزي الجنسي والمعنوي ومحاولة تغيّير الصورة النمطية إلي تصل إلى حد اقتسام الأدوار داخل العائلة والمجتمع والتقليص من التجاذبات الدائمة بين ما يفرضه القانون وتحتمه المنظومة الاجتماعية الثقافية المتوارثة.
وتتواصل هذه الظاهرة رغم سعي الجمعيات المناهضة للعنف إلى الحد منها حيث أكدت الناشطة بالمجتمع المدني والمتعهدة بالنساء ضحايا العنف في قفصه نهلاء عكريمي بأن الخوف من ردة فعل المجتمع هو السبب المباشر لتنامي العنف الذي وصل في بعض الأحيان إلى حد القتل مؤكدة أن من بين المناطق التي تعرف تزايدا لهذه الظاهرة “أم العرائس” و”زانوش” و”سيدي عيش” نظرا لصعوبة التنقل وصعوبة الولوج إلى العدالة وطول مشيرة إلى أن ولاية قفصه احتلت المرتبة الأولى سنة 2018 على مستوى التعهد بالنساء ضحايا العنف.
الدعوة إلى وقف العنف
إن الدفاع عن حقوق النساء والسعي إلى تكريس حقهن المشروع في التمتع بحياة آمنة بعيدة عن كل أشكال التمييز والإقصاء والقمع يعتبر في صميم مبادئ جمعية المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ولئن كان تزايد وتيرة العنف الموجه إلى النساء داخل الوسط الأسري من المؤشرات الدالة على خطورة هذه الظاهرة فإن دعوة الجمعية إلى تفعيل القوانين والعمل بالاتفاقيات الحامية لحقوق المرأة لا تفتأ أن تتجدد مادامت الهوة بين التشريع والواقع لا تزال على أشدها. كذا نشر الوعي والتحسيس، خاصة وعي النساء بحقوقهن وتشجيعهن على التوجه إلى القضاء، إذ يمثل انخفاض درجة الوعي لدى النساء في جهة قفصه بأهمية هذه المسألة وخطورتها احد أسباب تفاقم هذه الظاهرة وتفشيها.
[1] https://www.rayaljadid.com/2019/10/17/
[2] https://annabaa.org/nbanews/67/208.htm
[3] https://www.google.com/search?q
[4] https://www.ohchr.org/ar/professionalinterest/pages/cedaw.aspx