غار الملح، من الفلاحة إلى السياحة: “القطعاية” وصراع البقاء
جابر كرعاني[1]، بية الحرباوي[2]، أسماء بوحجر[3]، آية الصالحي[4]
تأطير إيناس لبيض
مقدمة
يعتبر نظام الزراعة الرملية (الرملي) أو المتعارف عليه بنظام القطعاية في منطقة غار الملح بولاية بنزرت في أقصى الشمال التونسي، طريقة فريدة للزراعة في الرمال، باستخدام المد والجزر لري المحاصيل بمياه الأمطار وهو من بين أكثر من 24 نظاما من نظم التراث الزراعي ذات الأهمية العالمية المدرجة ضمن قائمة منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (FAO) في سنة 2020.
للتاريخ دور رئيسي في تواجد هاته الطريقة الفريدة في الزراعة ، مع هجرة الأندلسيين إلى منطقة شمال إفريقيا، خاصة هجرة الموريسكيين إلى تونس في القرن السابع عشر، وتوطنهم في منطقة غار الملح التي تمتاز بموقعها الجغرافي الخاص، حيث تقع المدينة على سفح جبل الناضور الجنوبي وبحيرة غار الملح التي يصب بها أكبر أنهار تونس وأطولها، واد مجردة، وهو ما استوجب خلق تقنيات زراعية تتلاءم مع هذه الطبيعة القاسية للمنطقة ونتاجا لذلك ابتكر المجتمع المحلي في ذلك الزمان الزراعة الرملية كشكل من اشكال التأقلم بسب ندرة الأراضي الزراعية وقلة الموارد المائية العذبة.
ونظرا لخصائصها الجغرافية والطبيعية الهشة تم سنة 2018 إدراج مدينة غار الملح على قائمة “رامسار” وهي معاهدة دولية تهدف للحفاظ والاستخدام المستدام للمناطق الرطبة . و تعتبر غار الملح أول مدينة عربية و شمال إفريقية تدخل هذه القائمة
في إطار برنامج التبادل الشبابي للعدالة البيئية والمناخية للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية انتظمت زيارة ميدانية لمنطقة غار الملح لمعاينة نظام القطعاية وجملة التحديات التي يواجهها اليوم.
- ما هي “القطعاية”؟
القطعاية هي عبارة عن جزر رملية صغيرة داخل سبخة سيدي علي المكي تكونت نتيجة تراكم طبقات من الرمل يقوم الفلاحون بمزجها بالسماد العضوي لتشكل بذلك تربة صالحة للزراعة بسمك 40-50 سنتمتر. ثم يتم تثبيت القطايع والفصل بينها بإستعمال نبات القصب الذي يلعب في نفس الوقت دور كاسر للرياح. كما ويجب على المزارعين مراقبة ارتفاع مستوى البحر بانتظام حتى لا تغمر مياه البحر الأراضي بالكامل فتفسد بذلك المحاصيل و تجرف التربة. ذلك أن سمك التربة المناسب يلعب دورا مهما في عملية الري ٫اذ يسمح لجذور النباتات ببلوغ طبقة المياه العذبة المتأتية من مياه الأمطار والتي تطفو فوق مياه البحر المالحة عند حركة المد والجزر. وتمكن عملية الري الطبعية هذه من توفير احتياجات النباتات من الماء بالكمية الكافية دون استنزاف للموارد المائية٫ حيث أنها ترتكز على تثمين مياه الامطار دون أي حاجة للسقي المباشر.
إضافة الى كون نظام الرملي يعتبر حلا اقتصاديا في مواجهة أزمة شح المياه في تونس فانه يوفر عديد الزراعات الفصلية عالية الجوده لعل أهمها البطاطا البدرية، الفلفل، اللوبيا البيضاء والحمراء، البصل والبطيخ…
-
جملة من التحديات تهدد ديمومة نظام القطعاية
يواجه هذا الإرث الزراعي الوحيد من نوعه في العالم تهديدات شتى أهمها التغيرات المناخية والأنشطة البشرية التي على رأسها التوسع العمراني و إنشاء ميناء جديد بالمنطقة بالإظافة الى التطور السريعللأنشطة السياحية.
وفي هذا الصدد أفادتنا خلية الارشاد الفلاحي بغار الملح أن التساقطات تراجعت إلى حدود الثلث بين 2010 و 2023 مما ساهم في اختلال التوازن الذي يقوم عليه نظام الري في القطعاية التي تمثل 27 بالمئة من مجموع الأراضي الزراعية الرملية الممتدة على 220 هكتار. كما عرَّجت على الانخفاض الكبير لمنسوب المياه المتدفقة الى السبخة من خلال البوغاز، وهو ممر مائي طبيعي يمكِّن من تبادل المياه بين البحر والسبخة، وذلك نتيجة إنشاء الميناء الجديد وتعبيد الطريق الرابط بين المدينة والميناء. وقد أكد لنا ذلك عم علي وهو فلاح متمرس (منذ أكثر من 20 سنة) حيث أوضح لنا أن الانخفاض الكبير في مستوى مياه السبخة يؤثر سلبا على وصول المياه العذبة الى الجذور عند هطول الأمطار٫ و بالتالي لم يعد من الممكن تثمين هذه التساقطات لري المحاصيل أثناء عملية المد
ويعتبر الموقع الحالي للميناء الجديد من أهم العوامل المتسببة في ضعف امدادات السبخة بالماء ذلك أن فلاحي القطايع يتكبدون عناء تسريح مجرى المياه الذي يربط السبخة بالبحرمن الترسبات الرملية المتراكمة فيه بسبب قوة التيارات البحرية في المنطقة التي سبَّبها إنشاء الميناء والتي تستوجب مجهودات جرف دائمة ومكلفة للدولة وللفلاحين على حد السواء. وبحسب شهادة عم علي فإنه يقوم ومجموعة من الفلاحين بتسريح المجرى المائي مالايقل عن مرة كل أسبوع
- الآثار الاقتصادية والاجتماعية للصعوبات التي يواجهها نظام القطعاية
بناء على ما تقدم ونظرا للأهمية التي يكتسيها الموضوع فقد ارتأينا أن نتطرق الى الآثار الاجتماعية والاقتصادية لنظام القطعاية، في محاولة منا لفهم أسبابها وتبعاتها وايضاح تأثيراتها على المجتمع المحلى.
في إطار زيارتنا الميدانية لمنطقة غار الملح قمنا بمعاينة نظام القطعاية واستنتجنا أن للتغيرات المناخية جملة من التبعات على المجتمع المحلى بمنطقة غار الملح، لعل أبرزها عزوف الشباب عن ممارسة الفلاحة الرملية وتوجههم الى النشاط السياحي باعتباره يدر أرباحا هامة مقارنة بالنشاط الفلاحي الذي ما فتأ يتدهور بسبب التغيرات المناخية من جهة وتوجهات الدولة نحو دعم المشاريع السياحية مقابل التخلي التدريجي عن الأنشطة الفلاحية من جهة أخرى.
وقد ساهم هذا التغيير في النشاط الاقتصادي في تخلي عديد الفلاحيين عن أراضيهم لحساب المنشآت السياحية مما أدى الى فقدان الموروث المعرفي التقليدي الذي تناقلته الأجيال. هذه المعرفة ليست فقط أساسية للاقتصاد المحلي، ولكنها أيضًا جزء من الهوية الثقافية للمجتمع وفقدانها قد يؤدي إلى ضعف الروابط الثقافية والتاريخية.
ولقد عاينا كيف أن عددا من المنشآت السياحية الجديدة بالمنطقة فاقم من مشكل الترسبات الرملية ووصول مياه البحر إلى السبخة في مشهد يبرز الاخلالات في التوازن الايكولوجي التي تتسبب فيها عشوائية الخيارات والتوجهات التنموية التي تنتهجها الدولة.
التوصيات من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من نظام القطايع
وبناء علي ما تقدم فإن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية يوصي بضرورة الحفاظ على هذا الإرث الزراعي لما له من أهمية بيئية واقتصادية واجتماعية وذلك عن طريق تبني تشريعات تدعم صمود هذا النظام أمام التغيرات المناخية وتقدم الدعم اللازم لفلاحي القطايع٫ كما انه في ضل الخاطر المتزايد للزحف العمراني و الأنشطة السياحية يدعو المنتدى للتدخل العاجل لتوسيع البوغاز الموجود وفتح ممر مائي جديد من ناحية البحر لتزويد السبخة بالماء.كما يدعو أيضا الي تثمين هذا النظام في إطار ديناميكية سياحية جديدة تقوم علي السياحة الايكولوجية