شبح التلوث في ولاية بنزرت: النفايات والصرف الصحي تنتهك حق المواطنين في بيئة سليمة
غادة الحجري1
نهى قردبو2
تأطير رحاب مبروكي
مصادر تلوث عديدة وخطيرة، محطات بنزين، روائح كريهة، تحديات بيئية ومناخية ضخمة يكابدها الأهالي بمناطق عدة من ولاية بنزرت التي تعيش تحت وطأة التلوث الصناعي بسبب مخلفات المنشآت الصناعية ونفاياتها التي تصيب الإنسان والطبيعة وتصب داخل بحيرة بنزرت التي تشكل أحد اهم الثروات الايكولوجية بالمنطقة. هذا بالإضافة إلى إشكال مصب النفايات المنزلية بمنطقة برج شلوف الذي لم يجد إلى اليوم طريقه إلى الحل. أما الصرف الصحي فلا يزال هو الآخر أحد أهم التحديات البيئية التي يعانيها أهالي حي بئر مسيوغة.
يسعى هذا التقرير لقسم العدالة البيئية بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية المنجز ضمن دورة التبادل الشبابي بولاية بنزرت لسنة 2024 الوقوف على مختلف هذه الإشكاليات وتصوير معاناة أهالي ولاية بنزرت جراء مصادر التلوث المختلفة.
-
التلوث الصناعي يهدد التنوع الايكولوجي ببحيرة بنزرت
تعد بحيرة بنزرت من أبرز البحيرات الموجودة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، والتي تمتد على مساحة حوالي 120 كلم مربع جنوب مدينة بنزرت، ويبلغ عمقها المتوسط بين 07 و12 متر وتغذيها عدة أودية تنبع من الحوض وتكمن أهميتها الاقتصادية في كونها تضم المرفأ الاقتصادي للبلاد.
تعاني بحيرة ينزرت من إشكالية التلوث التي تهدد ثروتها الايكولوجية متأتية خاصة من وجود أكوام نفايات صلبة ممتدة على كامل ساحلها نتيجة انتشار الأنشطة الصناعية والتوسع العمراني غير الرشيد على ضفافها، حيث يصل عدد المؤسسات الصناعية الى 277 مؤسسة مختلفة الحجم والنشاط (تصنيع الجليد، النسيج، تكرير النفط، إنتاج الحديد، رسكلة الزيوت المستعملة والفولاذ). ويوجد 40 مؤسسة صناعية من بين المنشآت الموجودة مصنفة ضمن المؤسسات شديدة التلوث بينما يصل عدد المؤسسات ذات التلوث المتوسط إلى 60 مؤسسة. وتلقي هذه الأخيرة حوالي 17 ألف طن من المواد الملوثة سنويا3 داخل البحيرة. ورغم النداءات المتكررة المطالبة بوقف نزيف التلوث الذي طال البحيرة وما جاورها إلا أن السلطات الرسمية لم تستجب لهذه المطالب، ما أدى إلى بروز عديد التداعيات البيئية الخطيرة التي مست البحيرة و أثرت بشكل مباشر على ثرائها البيولوجي حيث سجل في السنوات الأخيرة تراجع حوالي 30 بالمئة من إنتاج السمك ناهيك عن انقراض بعض الأصناف السمكية الأخرى مثل البوري وأفعى البحر وأيضا بروز العديد من الأنواع الدخيلة على الثروة البحرية التونسية مثل السلطعون والحلزون البحري والتي من شأنها أن تؤثر على التوازن البيولوجي بالبحيرة حسب ما أفادنا به بعض البحارة بالمنطقة خلال الزيارة الميدانية التي قام بها فريق التبادل الشبابي لقسم العدالة البيئية إلى البحيرة.
وتواجه البحيرة أيضا خطر التغيرات المناخية التي تعد اليوم من أبرز المشكلات العالمية مثل ارتفاع درجات حرارة الماء التي وصلت في السنوات الأخيرة إلى 29 درجة مئوية وانخفاض معدل الأكسيجين من 08 بالألف إلى 06 بالألف حسب إفادة بعض البحارة المتواجدين بالقرب من البحيرة. كل هذه العوامل ساهمت في بروز مجموعة من التحديات الاقتصادية والاجتماعية حيث ساهم تراجع كميات الأسماك في التأثير على موارد رزق الكثير من البحارة وعزوفهم خاصة منهم الشباب عن مزاولة أنشطتهم وتفكيرهم في النزوح إلى مناطق أخرى.
موقع بحيرة بنزرت |
التلوث بالنفايات الصناعية ببحيرة بنزرت. صورة بتاريخ 11 جوان 2024 |
-
النفايات والصرف الصحي …. معاناة لم تنته لأهالي برج شلوف وبئر مسيوغة
روائح كريهة تسد الأنوف حشرات مختلفة الخطورة تنتشر داخل الأحياء السكنية وخيوط من الدخان المتصاعد تدفع بأهالي برج شلوف إلى العجز عن فتح النوافذ جراء الحرق العشوائي للنفايات بالمصب البلدي المتواجد بالقرب من مقرات سكنى الأهالي، والذي أصبح كابوس السكان الدائم واليومي.
يعود إحداث هذا المصب البلدي غير المراقب الذي تشرف عليه بلدية بنزرت الجنوبية إلى أكثر من العقدين من الزمن، رغم رفض الأهالي لقرار إحداثه وتقديمهم مطالب اعتراض بسبب قربه منهم حيث لا يفصله عن المساكن سوى عشرات الأمتار، كما أنه يحتوي على نفايات ذات مصادر متعددة وليس فقط نفايات منزلية. غير أن نداءاتهم لم تستجب لها السلطات المحلية والجهوية التي اتخذت موقف المتفرج إزاء التحديات البيئية والصحية التي يعيشون على وقعها منذ تركيز المصب.
وحسب شهادات مجموعة من متساكني منطقة برج شلوف في لقاء جمعنا بهم خلال زيارة ميدانية بتاريخ 12 جوان 2024، يقول العم صالح
“ أحفادي الاثنين يعانون من ضيق التنفس بسبب المصب“.
هذا بالإضافة إلى انتشار مرض السرطان الذي افتك بحياة عدد من الأهالي وانزعاجهم المستمر من تواصل هذه المعضلة البيئية. كل هذه الأضرار الصحية والنفسية لم تحرك ساكنا للسلطة. ورغم القيام بالعديد من التحركات الاحتجاجية للمطالبة بوقف سيلان التلوث إلا أنها لم تحقق نتيجة إيجابية تذكر.
ومن المضحكات المبكيات ان الناس التي تعاني وتتألم من تداعيات المصب الذي يضم نفايات كامل معتمدية بنزرت الجنوبية لا يتوفر لهم مكان لوضع نفاياتهم، اذ يأخذون نصيبهم من الروائح والامراض فقط. ضريبة باهضة الثمن يدفعونها دون فائدة لهم. لذلك يطالبون بتوفير مكان لوضع نفاياتهم.
تكدس النفايات في الحي المحاذي للمصب 12 جوان 2024 |
مصب برج شلوف بتاريخ 12 جوان 2024 |
شبح التلوث لا يقتصر على سكان برج شلوف فحسب، حيث يعاني سكان منطقة بئر مسيوغة التابعة لمعتمدية بنزرت الجنوبية أيضا من آثار الانعدام الكلي لخدمات الصرف الصحي. مما ساهم في انتشار أمراض عدة مثل الكلى وضيق التنفس والحساسية إضافة إلى بروز الحشرات السامة التي تقلق راحة السكان.
وحسب شهادات العديد منهم فان سكان هذه المنطقة يجدون صعوبة في التنقل لمزاولة أنشطتهم اليومية وكذلك في طريق ذهابهم إلى مؤسساتهم التربوية. ولفهم هذه الصعوبات، تجدر الإشارة إلى أن المنطقة تنقسم الى اثنين من الاحياء يقع الأول في مكان مرتفع بينما الاخر في منطقة منخفضة، ويفصلهما طريق، بينما يقطعهما وادي. ومن المفارقات انه ورغم قصر المسافة بينهما الا ان الحي العلوي يتمتع سكانه ببنية تحتية جيدة وبمختلف الخدمات التي تغيب في الحي السفلي، حيث يقع الحي العلوي من جهة القنطرة التي يتم بناؤها حاليا لتعزيز طاقة استيعاب القنطرة الحالية لبنزرت. ولأن هذه المنطقة ستصبح وجهة للسيارات وستزيد من ديناميكية المنطقة فان الاستثمارات والتحسينات في البنية التحتية يتم توجيهها إليها بينما يحرم الحي السفلي من أبسط الخدمات، وهو ما عبرت عنه بنت ال 12 ربيعا التي التقيناها غير بعيد عن المدرسة الابتدائية.
” نحنا في بلاد وهوما في بلاد“
ومن أهم الاجراءات التي فاقمت من وضعية التلوث في الحي السفلي، أنه ردم الجزء العلوي من الواد مما جعل المياه تنحصر داخل الحي الموجود تحت الواد. من جانب آخر، فان الحي العلوي تصل اليه الحافلات بينما يقتصر سكان الحي السفلي على التنقل عبر النقل الريفي.
التلوث بالصرف الصحي بأحياء بئر مسيوغة بتاريح 12 جوان 2024
-
أي حلول مقترحة للنهوض بالوضع البيئي؟؟
من خلال زيارتنا سواء لبحيرة بنزرت ومنطقة بئر مسيوغة وبرج شلوف لمسنا لدى الأهالي إصرارا وحرصا وعيونا تشع غضبا وأملا حتى لمجرد إيصال صوتهم، وهذا ما نقلته عدسات كاميراتنا لتنقل مطالبهم وآمالهم ومحاولاتهم لإيجاد حلول للتحديات التي يواجهونها. فسكان محيط بحيرة بنزرت والمجتمع المدني الممثل لمشروع تطهير بحيرة بنزرت “Ecopact”يرون خلاصهم في التصرف في النفايات الصناعية بشكل امن وعدم إلقائها بشكل عشوائي داخل البحيرة. كما يرى الأهالي انه لا بد على المؤسسات الصناعية أن تأخذ بعين الاعتبار ضرورة احترام المعايير البيئية المعمول بها وطنيا ودوليا (الامتثال للقوانين) حتى لا نخسر ثروة وطنية لا مثيل لها. كذلك يعد التصدي لظاهرة البناء الفوضوي أمرا محتما فالبحيرة تستغيث من الاختناق العمراني.
أما برج شلوف فهي ليست أفضل حالا فأثناء زيارتنا الميدانية لها لم تتردد على مسامعنا سوى لا بد من إبعاد المصب على المناطق السكنية الذي يعتبر الحل الوحيد. بدورهم يرى أهالي منطقة بئر مسيوغة أن الحل لنجاتهم يتمثل في ربط المنطقة بشبكة الصرف الصحي التزاما بالفصل 47 من الدستور الذي يضمن الحق في بيئة سليمة. علاوة على ضرورة تعبيد الطرقات حتى يتمكن الأطفال من الذهاب إلى مدرستهم بصورة آمنة.
جميع هذه التحديات البيئة تفرض على الدولة التونسية اليوم حتمية وضع استراتيجيات محكمة وناجعة لمقاومة خطر التغيرات المناخية وآثارها على المنظومات الايكولوجية الهشة على غرار بحيرة بنزرت، كما وجب التعاطي الآمن والسليم مع إشكال النفايات الذي يعتبر إشكالا وطنيا ينتشر في مناطق عدة وخاصة في الهوامش، وذلك عبر تبني سياسة الفرز والتثمين والرسكلة علاوة على القضاء على المصبات العشوائية التي تنتشر في أماكن مختلفة والتفكير الجدي في استراتيجية وطنية للتصرف في النفايات، خاصة في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية. أما إشكال الصرف الصحي فان توفير شبكات التطهير للمناطق التي تعاني من الغياب الكلي لهذه الخدمة أصبح من الضروريات التي يجب على الدولة الإسراع في إحداثها. هذا دون إغفال مسؤولية الأفراد في تبني سلوكيات مسؤولة تجاه البيئة.
1 كاتبة عامة لجمعية الدائرة الخضراء. بنزرت
2 أخصائية اجتماعية. المنستير