النشاط المنجمي بمنطقة “تبديت” بالرديف:
خيارات إقتصادية مدمرة يدفع ثمنها صغار الفلاحين !
رحاب مبروكي (مكتب الحوض المنجمي للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية)
سموم تضر بالتربة، أشجار تتيبس ثم تموت، موارد مائية تستنزف، وجهات حكومية لا تكترث.تنطبق هذه المعاناة على سكان قرية “تبديت”من معتمدية الرديف بالجنوب الغربي للبلاد التونسية والمقدر عددهم ب2000 ساكنا،وذلك منذ أن بدأت شركة فسفاط قفصه في إستغلال مقاطع المنطقة لإستخراج الفسفاط غير بعيد عن الأحياء السكنية.
وتأثر القطاع الفلاحي بفعل النشاط المنجمي بشكل ملفت للنظر، جراء التأثير المدمر للغبار على المحاصيل الزراعية وإستنزاف الطبقة المائية الجوفية مما تسبب في تراجع مردوديته الإقتصادية علما و أنه يعتبر مورد رزق أغلب السكان.
النشاط المنجمي بالرديف: منطقة تبديت نموذجا
منذ أواسط ثمانينات القرن الماضي وتحديدا حينما إكتشف المهندس العسكري الفرنسي فيليب توماس الفسفاط بجهة قفصه سنة 1885وبعث مؤسسة لاستغلاله سميت “شركة فسفاط قفصه”، لا تزال المناطق المنتجة لهذا المورد الطبيعي من أكثر المناطق تهميشا على المستوى الإقتصادي والإجتماعي والبيئي، بسبب عدم إحترام المعايير المعمول بها وطنيا ودوليا وسوء تصرف الجهات المسؤولة عن هذه الثروة. ورغم ما تلعبه هذه الأخيرة من دور إقتصادي وإجتماعي هام، عبر مساهمتها في دفع الإقتصاد وتوفير مواطن الشغل، إلا أن تداعياتها سيما على المجال البيئي كانت ولا تزال خطيرة بسبب التلوث السمعي والإهتزازات الناجمة عن عمليات التفجير، والغبار الذي يشكل سحابة جاثمة على ربوع المنطقة على إمتداد السنة، زد على ذلك إستنزاف الموارد المائية ونفايات الفسفاط التي تؤدي في نهاية المطاف إلى تضرر الأشجار المثمرة والخضروات، بالإضافة إلى الضرر الذي تلحقه بصحة المتساكنين.
تضرر الفلاحة بجهة تبديت مقابل ازدهار النشاط الاستخراجي
يعتبر النشاط الفلاحي بمنطقة “تبديت” العمود الفقري لحياة سكانها، الذين إتخذوا من زراعة أشجار الزيتون والتين والمشمش والنخيل والخضروات مورد رزق لهم. وتعتبر الفلاحة بهذه المنطقة تقليدية عائلية توجه منتجاتها إلى السوق المحلي أساسا. وتضم أراضي متوارثة تبلغ مساحتها عشرات الهكتارات، كما يقوم فلاحوها بحفر آبار لإستخدامها للأغراض الفلاحية. غير أن هذا القطاع أصبح في السنوات الأخيرة يواجه عددا غير قليل من التحديات التي إنتهجتها سلطة الإشراف بجهة قفصه، عبر تخليها التدريجي عن النشاط الفلاحي مقابل فتح الباب على مصراعيه أمام شركة فسفاط قفصه التي تستنزف الطبقة المائية الجوفية للمنطقة لغاية إستخدامها لغسل الفسفاط.
جفاف السماء.. والأرض!
ليس الجفاف بالمعطى الجديد في هذه الربوع، فقد واجهت هذه المناطق ولسنوات متتالية انحباس المطر نظرا لطبيعة مناخها شبه الصحراوي، و أصبحت سنوات الجفاف تمتد ل5 سنوات و أكثر بسبب ظاهرة التغيرات المناخية التي أصبحت واقعا ملموسا.
ووفقا للمعطيات الرسمية لوزارة الفلاحة والموارد المائية المتعلقة بكيفية استغلال الطبقة المائية الجوفية فإن نسبة استغلال الموارد المائية بالجنوب التونسي تعد مرتفعة حيث بلغت في ولاية قفصه 76 بالمئة[1]. ويتواصل هذا الأمر وسط تحذيرات من جهات عالمية ووطنية بضرورة ترشيد استغلال المياه والمحافظة على هذا المورد الطبيعي من النضوب. وقدنشر معهد الموارد العالمية في شهر أوت الماضي أحدث تقاريره، محذرا من أن 25 دولة في العالم مهددة بشح في المياه بسبب الإجهاد العالي لمواردها المائية المتاحة، علما وأنّ هذه الدول تضم حوالي 4 مليارات نسمة أي ما يعادل ربع سكان الأرض.
وفي منطقة تبديت يعد نقص المياه ظاهرة خطيرة تهدد الأراضي الزراعية وحتى التجمعات السكنية. هناك بالطبع أسباب تعود للتغيرات المناخية، مثل ارتفاع درجات الحرارة ونقص الأمطار وزيادة نسبة الأملاح فوق الأرض وتحتها لكن هناك أيضاً أسباب تعود للسياسات والتوجهات الإنتاجية السائدة، فهذه المنطقة التي كانت تُعرف بالإنتاج الكبير للتين والخضروات، عانت منذ نهاية القرن الماضي من استنزاف طبقاتها المائية بسبب الاستغلال المكثف والعشوائي من طرف شركة فسفاط قفصه، وإستعمالها الماء لغسيل الفسفاط. ويتواصل هذا الإستنزاف رغم تنبيه الخبراء من تفاقم إشكال ندرة المياه سيما وأن البلاد تصنف تحت خط الفقر المائي، وسط توقعات بمزيد إنخفاض نصيب الفرد السنوي من الماء. وتزداد حدة الإشكاليات المتعلقة بالموارد المائية بسبب ضعف التساقطات المطرية المرتبطة بطبيعة المنطقة وعدم قدرتها على تعويض تراجع منسوب المياه الجوفية، ممّا دفع بالكثير من الفلاحين إلى التخلي عن نشاطهم وعن أراضيهم وحتى إلى الهجرة.
يشرح محمد عباسي، وهو فلاح بالمنطقة وضعية الفلاحين الصغار معتبرا أن المائدة المائية تضررت جراء الاستغلال المفرط لها لغرض الصناعة. وذكر “أن الفلاحين يحفرون آبارًا بعمق 250 مترًا دون أن يجدوا الماء، بعد أن كانت المياه تستخرج على عمق 30 أو 40 مترا”. ويقول محمد الصادق وهو فلاح بالمنطقة بأنه يمتلك أبارا سطحية جفت نتيجة الاستنزاف المكثف للطبقة المائية إضافة إلى تضرر 180 شجرة زيتون من غراساته جراء التلوث ونقص المياه.
تأثير التشاط المنجمي على الهواء والتربة
لا يهدد النشاط المنجمي فقط المائدة المائية بل أيضاً التربة والهواء. فمثلاً نجد أن الإنتاج الفلاحي قد تراجع كثيراً مقارنة بالعقود الماضية. وفي هذا الإطار تقول لطيفة جديدي وهي فلاحة أصيلة المنطقة بأن أشجار المشمش والتين من أكثر الأصناف التي تأثرت بالنشاط المنجمي مؤكدة نقص إنتاجيتها مقارنة بالسنوات الماضية. وأضافت بأن الغبار الذي يتشكل لحظة استخراج الفسفاط يستقر على أوراق الأشجار والخضروات مما يدفع الفلاحين إلى تكبد مصاريف شراء أدوية تقضي على مضار الغبار. ورغم مطالبتهم شركة فسفاط قفصه بمنحهم تعويضات نتيجة الضرر الحاصل على زراعتهم إلا أن نداءاتهم لم تلقى أية استجابة.
إن الأنشطة المنجمية لها تأثيرات سلبية على الفلاحة عموما. وبحكم طبيعتها، تستخدم هذه الأنشطة كميات كبيرة من المياه وتزعج الأرض لإستخراج الموارد التي يتم تحويلها. وبالتالي، يجب أن تتم عملية الاستخراج وفق ضوابط بيئية صارمة تضمن الحفاظ على الثروة المائية والترابية وإستخدامها إستخداما مستداما
إستهداف الفلاحة رغم إلزامية القوانين
يتواصل الانتهاك لقطاع حيوي مثل الفلاحة رغم إصدار مجلة المناجم[2]التي تضمنت أحكاما تشريعية تتعلق بأنشطة استكشاف المواد المنجمية والبحث عنها وإستغلالها كما تنظم هذا القطاع عبر تقنين عمل المنشآت الصناعية المنجمية وتحديد مسؤولياتها تجاه محيطها لا سيما وأنها تخلق عديد الأضرار التي تمس مجالات عدة. وتعتبر مسؤولية المؤسسة تجاه محيطها من صميم واجبها المجتمعي تجاه بيئة ومتساكني المنطقة التي تتواجد فيها، وهذا ما نص عليه أيضا قانون المسؤولية المجتمعية للمؤسسات لسنة 2008.
يقف صناع القرار في تونس اليوم عاجزين أمام أسئلة ورهانات كبرى: كيف يمكن الإستغلال الصناعي للموارد المائية للإستخدام الصناعي مع إحترام المعايير و دون إنهاك الأرض واستنزاف طبقاتها، ومع الحفاظ على الموارد الطبيعية المحدودة والتي لا غنى عنها لاستمرارية النشاط الفلاحي؟ وما هو التوجه الأكثر أهمية والذي وجب دعمه : هل هي الصناعة أم الأمن الغذائي؟
لقد أصبح محتما على صناع القرار اليوم ضرورة التحكم في الموارد المائية وترشيد استغلالها مع تحديد أولويات الاستعمال بالنظر إلى الطلب على هذه الموارد وأهمية تواجد نشاط دون آخر حسب الجهات. كما وجب اللجوء إلى الموارد غير التقليدية للمياه على غرار تحلية مياه البحر ومعالجة المياه المستعملة من أجل الاستغلال الصناعي والفلاحي. هذا إضافة إلى إحترام المعايير البيئية ودراسات التأثير على المحيط للحد من التلوث البيئي الذي أضحى خطرا داهما على القطاع الفلاحي. وذلك حتى لا تكون النتائج وخيمة خصوصا مع تزايد حدة التغيرات المناخية وتفاقم تأثيراتها.
[1]المياه في تونس.. شح واستنزاف عشوائي “خطير” | سكاي نيوز عربية (skynewsarabia.com)
[2]نصوص و مواد قانون المناجم التونسي 2023 (mohamah.net)