نساء “برباشة” مسنات
ريم بن عمر (مركز الانصات والتوجيه للنساء ضحايا العنف – قصيبة المديوني )
تعيش بعض النساء كبيرات السن ظروفا قاهرة وتهميشا اجتماعيا اضطررن بسببه على العمل في ظروف صحية واجتماعية صعبة مقابل عدم الانحناء أمام عاصفة الزمان والاستسلام للظروف الاجتماعية والاقتصادية التي يرزحون تحت وطأتها
رغم تقدمها في السن وظهور علامات المرض والوهن على محياها التي غزتها التجاعيد الا أنها تصر على تحدي الظروف الصعبة وعلى مواجهة الزمن وكسب قوتها بعرق جبينها في ظل عدم توفر أي مورد رزق تقتات منه حيث اشارت السيدة فاطمة كما اخترنا تسميتها والتي تجاوزت العقد السابع من عمرها: ” أفضل العمل بعرق جبيني بدلا من الجلوس أمام الجوامع والتسول من الناس” ثم أردفت قائلة ” اضطررت على الطلاق منذ أكثر من 10 سنوات لأنني كنت أتعرض الى العنف الشديد من قبل زوجي السابق، ومنذ ذلك الوقت بدأت في جمع القوارير البلاستيكية لكي أستطيع أن أعيل ابني من ذوي الاحتياجات الخاصة”. أما السيدة ليلى التي وجدت نفسها عاطلة عن العمل إثر الغلق الفجئي لمعملها بعد سنوات طويلة من العطاء فقد لجأت لجمع القوارير البلاستيكية لتنقذ عائلتها من جوع محتوم حيث قالت ” من سيقبل بتشغيلي وقد تجاوزت الخمسينات من عمري، فأصحاب المعامل يفضلون تشغيل الشباب لأن مردودية عملهم ستكون أفضل” ففي العدة يصاحب التقدم في العمر انخفاض فرص الحصول على عمل وهو ما يتعارض مع مبادئ الأمم المتحدة المتعلقة بكبار السن اذ يؤكد الاستحقاق الثاني من مبدأ الاستقلالية على أنه “ينبغي أن تتاح لكبار السن فرص العمل أو فرص أخرى توفر لهم مصدر دخل” وهنا تجدر الإشارة على ضرورة أن يكون العمل متوافقا مع سن المرأة ووضعيتها الصحية علما أن الدولة مجبرة على حماية المسنات وضمان كرامتهن واسناد اعانة مادية للمعوزات منهن حسب القانون عدد 114 لسنة 1994 والمتعلق بحماية المسنين، اذ ينص في فصله الأول من الباب الأول ” تعتمد حماية المسنين على المبادئ التالية:
– حماية صحتهم وضمان كرامتهم وذلك بمساعدتهم على مجابهة الصعوبات التي تعترضهم في حياتهم اليومية بحكم تقدمهم في السن.
– مساعدتهم على معرفة حقوقهم وتقديم المعونة اللازمة لهم لتمكينهم من ممارستها والانتفاع بها” وينص في الفصل 19 من الباب الثالث : ” يمكن للدولة عند الحاجة اسناد اعانة مادية للأشخاص المسنين المعوزين قصد المساهمة في تسديد الحاجات الاساسية المتمثلة في الاكل والملبس وعند الاقتضاء المأوى.”
وحسب بيانات التعداد العام للسكان لسنة 2014، تشير الاحصائيات الى أن 50.82% من الناء المسنات لا تملكن أي دخل مقابل 42% ينتفعن بجراية تقاعد و2.51% فقط تنتفعن بمساعدات اجتماعية
ويؤثر انخفاض المنح الاجتماعية التي أصبحت لا تكفي لتغطية أدنى احتياجات النساء المسنات من أكل وشرب ومسكن، على نوعية حياتهن وتساهم في التهميش الاقتصادي لهاته الفئة. أما المسنات دون دخل فهن عاجزات عن توفير الحد الأدنى من المال وهن مجبرات على القيام بمثل هذه الأعمال الشاقة الغير منظمة وفي غياب أي حماية قانونية حيث أفادت السيدة فاطمة أنها تضطر على المشي لعدة كيلومترات منحنية الظهر، تجر عربتها المليئة بالقوارير البلاستيكية مصرة على الحصول على لقمة ممزوجة بالكد والتعب بين شتاء بارد وصيف لاهب وظروف صحية صعبة، فتقدمهن في السن يتزامن مع اصابتهن بعدة أمراض مزمنة مثل مرض السكري وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب والشرايين…حيث قالت السيدة فاطمة في هذا الصدد “أعاني من أمراض القلب منذ مدة طويلة، أقيم في المشفى لمدة أسابيع بين الفينة والأخرى بغرض العلاج وأضطر أحيانا على العودة الى العمل مباشرة فور خروجي من المشفى قبل أن تتحسن حالتي الصحية” أما السيدة ليلى التي تعاني من مرض السكري فقد أوضحت أنها حين تتعرض الى جروح بسبب فرز النفايات التي قد تحتوي على مواد خطرة، لا تلتئم جروحها بسهولة وتكون عرضة الى الجراثيم مما يؤدي الى تعكر حالتها الصحية .
بالإضافة الى ذلك فهن تعانين من عدة أمراض أخرى مثل الام الظهر وعرق النسا والام الركبتين واليدين، وهي أمراض ذات ارتباط كبير بالتقدم في السن ساهم العمل كبرباشة في زيادة بروزها وتعكرها. كما تجدر الاجارة الى خطر تعرضهن لعدة حوادث شغل بسبب افتقارهن الى أدنى وسائل الحماية التي لا تقدرن على توفيرها وفي المقابل يتعرضن الى خطر الإصابات بالتهابات جلدية بكتيريا الكزاز والجراثيم التي تقود الى اليرقان والتهاب السحايا وحدوث تلف في الكلى.
وفي حين تتمتع بعضهن بدفتر علاج مجاني تجبر السيدة زينب كما اجترنا تسميتها (65 سنة) على تحمل تكاليف علاجها حيث قالت ” أضطر على تحمل الالام أحيانا لأنني لا أقدر على دفع تكاليف العلاج “
يمثل هذا الوضع انتهاكا لحقهن في الحصول على رعاية صحية مستدامة والوقاية من الأمراض أو تأخير الإصابة بها في كنف الاحترام الكامل لكرامتهن واستقلاليتهن. اذ ينص الفصل 43 لدستور البلاد التونسية لسنة 2022 “الصحـة حـق لـكل إنسـان. تضمـن الدولـة الوقايـة والرعايـة الصحيـــة لـــكل مواطـــن وتوفـــر الإمكانيات الضروريـــة لضمـــان الســـلامة وجـــودة الخدمـــات الصحيـــة. تضمـــن الدولـــة العلاج المجانـــي لفاقـــدي الســـند ولـــذوي الدخـــل المحـــدود وتضمـــن الحـــق فـــي التغطيـــة الاجتماعية طبـــق مـــا ينظمـــه القانـــون”.
واضافة الى عوامل الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية التي ذكرت، تتعرض نساء البرباشة كبار السن الى العنف بتواتر وهو ما يساهم في مزيد اقصائهن اجتماعيا ونذكر من ذلك العنف النفسي الذي يتمظهر من خلال الضغط النفسي الكبير جراء الاقصاء والتهميش وسلبهن أبسط حقوقهن، الى جانب المضايقات التي تتعرضن لها من قبل المارة بسبب كلامهم المسموم ونظراتهم القاسية والاحتقار من شأنهن، أو من قبل البرباشة الاخرين وعمال البلديات، حسب تصريح احداهن، الذين يحتكرون بعض الشوارع والمصبات ويمنعوهن من الاقتراب منها.
ويمكن أن يترتب على هذا العنف عواقب وخيمة تتعلق بصحتهن الجسدية والنفسية مثل الاصابة بأمراض نفسية حادة كالاكتئاب الذي يزيد من نسبة الوفيات بالإضافة الى آثار سايكولوجية بعيدة الامد نتيجة الايذاء المستمر لهن.
وبالنظر الى القانون عدد 58 لسنة 2017 فان تعريف المرأة الذي تضمنه هذا القانون شمل كبيرات السن كما نص على تشديد العقوبات كلما كانت الضحية امرأة مسنة ولكن عدم معرفة هذه الفئة بهذا القانون أو تجاهلهن له يفاقم من وضعيتهن البائسة ويؤبد بقاءهن في هامش سياسات الدولة والمجتمع.