الحركات الاجتماعية الجديدة في المغرب الكبير
حضور الفعل الاحتجاجي وغياب المشروع السياسي
البدايات
يبدو جليًا ان الحركات الاحتجاجية التي شهدتها بلدان المغرب الكبير قد جاءت نتيجة مبادرات مجتمعية لا تتبع أحزاب سياسية أو تنتمي لتنظيمات إيديولوجية معينة. ولا جدال أن توسعها وأساليب نضالها المبتكرة قد فاجأ أنظمة الحكم، التي اعتقدت أن الحلول الأمنية وسيطرتها على شرايين الحياة العامة قد ضمن لها الاستقرار الدائم، فضلًا عن النخب السياسية والحقوقية وحتى النقابية، التي أنهكتها صراعاتها الداخلية وخنقها الحصار المفروض من أنظمة الحكم على أنشطتها. لكن أعتقد أن مجموعات مختلفة تنتمي للحركتين النقابية والحقوقية في المنطقة المغاربية قد تداركت الفجوة عبر انخراطها في مسار المنتديات الاجتماعية العالمية، حيث تلتقي الحركات الاجتماعية والحركات المناهضة للتوجه الاقتصادي الليبرالي للعولمة؛ مما مكنها من التأقلم وفهم طبيعة هذه الحركات الاجتماعية الجديدة والتشبيك بينهما.
لقد وضعت الحركات الاجتماعية الجديدة مفهومًا مغايرًا للفعل السياسي وديناميكية جديدة، حيث لم يعد ذلك الفعل يقتصر على القيادات الحزبية ذات الأيديولوجيات الثورية والتجارب العريقة والثقافة السياسية العميقة فحسب، إذ ساعدت هذه الحركات على ”دمقرطة“ الحياة السياسية ووسعت أفقها بتركيزها على هموم وثيقة الصلة بالحياة اليومية للمواطنين، كما تولى قيادة هذه الحركات أشخاص ليست لديهم خبرة سياسية سابقة ولا يحملون طموح في السلطة، وقد ساعد في انتشار الحركات الجديدة -رغم تضييق الأنظمة الحاكمة- قدرتها على الاستفادة من وسائل الاتصال الحديثة التي أتاحت لها فرص الاطلاع على تجارب أخرى داخل المنطقة المغاربية وخارجها.
ثمة اعتقاد بأن الحركات الاجتماعية في العالم العربي هي امتداد للحركات الاجتماعية العالمية، التي بدأ نشاطها يتوسع مع انحسار دور الأحزاب السياسية اليسارية والنقابات العالمية التي حاصرتها العولمة النيو-ليبرالية التي تسعى لتحرير الاقتصاد من أية رقابة. وفي مواجهة عجز الأحزاب والنقابات أنشئ المنتدى الاجتماعي العالمي الذي بدأ دورته الأولى في البرازيل سنة 2001، [1] كرد فعل على المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عقد في دافوس بسويسرا في الفترة نفسها، وردًا على سياسات العولمة الاقتصادية وما تخلفه من آثار مدمرة على الشعوب، على مختلف المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية.
لقد ساد خلال دورات المنتديات الاجتماعية السنوية ابتداءً من لقاء بورتو أليغري في البرازيل تياران، يضم الأول الحركات المنظمة، ومن بينها النقابات المتمردة على قياداتها المهادنة للسلطة، والمنظمات الحقوقية، والحركات النسوية، والأقليات، والمنظمات المهتمة بالبيئة. بينما يضم التيار الثاني الحركات الاجتماعية التي لا ترى في التنظير السياسي جدوى، وتؤمن بالنشاط الميداني في المواجهة، كما حدث في سياتل 1999 مع المسيرات المعارضة لمؤتمر منظمة التجارة العالمية حين تمكن المتظاهرون من إفشال المؤتمر، وكذلك حركة “احتلوا وول ستريت” في سبتمبر 2011، وحركة “المستائين” في إسبانيا في مايو 2011.
وقد وجد نشاط المنتدى الاجتماعي العالمي صدى له في المغرب الكبير، حيث انعقدت الجلسة التحضيرية للمنتدى الاجتماعي المغاربي في بوزنيقة بالمملكة المغربية في 2006، وأعلن البيان الختامي للجلسة التحضيرية للمنتدى عن تأسيس المنتدى المغاربي بحضور نقابيين وحقوقيين وحركات نسوية وشبابية من مختلف الأقطار المغاربية، من أجل إطلاق “مساحة لالتقاء الحركات الاجتماعية.” كذا تأسست في العام نفسه، “التنسيقية المغاربية لحقوق الإنسان” التي ضمت في البداية 12منظمة حقوقية من بلدان المغرب الكبير. وهي تعمل من أجل حماية حقوق الإنسان “في شموليتها” وتأسيس علاقات وطيدة مع “كل المنظمات المغاربية الديمقراطية المؤطرة للمجتمع المدني.”[2]
جاء المنتدى الاجتماعي المغاربي على خلفية اعتبارات متعددة، أولها تنامي الحركة الاجتماعية في المنطقة المغاربية، وخاصةً في المغرب وتونس، وهما البلدان المعنيان أكثر بصدى الأزمات الاقتصادية العالمية، فضلًا عن تطور الحركتين النقابية والحقوقية في كلتا البلدين، ما سمح بهامش من حرية الحركة فيهما. على العكس من الجزائر التي لم تتأثر بالأزمة المالية العالمية، بسبب محدودية السوق المالية هناك وعدم انفتاح اقتصاد البلاد على الاقتصاد العالمي، بالإضافة إلى وفرة عائدات البترول التي مكنتها من ارتفاع واردات الموازنة العامة خلال النصف الأول من سنة 2008.[3]
بين الحوض المنجمي في تونس وسيدي إفني في المغرب: منعطف مواجهة الأنظمة
تطورت أغلب الحركات الاجتماعية خارج الإطارين النقابي والحقوقي، فاحتجاجات مثل الحوض المنجمي في الجنوب التونسي في 2008، وسيدي إفني في المغرب في العام نفسه، شهدتا مشاركة مواطنين عاديين، وحتى النقابيين الذين انخرطوا في معركة الحوض المنجمي، انضموا للاحتجاجات خارج الإطار النقابي؛ أي أنهم كانوا خارج الدائرة النقابية التنظيمية التقليدية. وتحت ضغط السلطة جرد الاتحاد العام التونسي للشغل بعض النشطاء المنتمين تنظيميًا للنقابات من عضويتهم، ولكنه تراجع عن قراره بسبب ما اكتسبته الانتفاضة من زخم إعلامي وتعاطف شعبي.
إن تزامن الانتفاضتان أعطى مؤشرًا على تغييرات مهمة تحدث في المجتمعات المغاربية، فبالإضافة إلى الكسر البطيء لحاجز الخوف من قمع السلطة، وتكذيب مقولات النظام الحاكم عن “النمو الاقتصادي” و”المعجزة الاقتصادية”، فإن التحركات الشعبية الاحتجاجية قد فاجأت –بالإضافة للأنظمة الحاكمة– الأحزاب السياسية المعارضة، والتي كان تأثيرها محدودًا بسبب القمع، انحسار توسعها الجماهيري، وغياب الفضاء الديمقراطي، وكثرة صراعاتها الداخلية، وأيضًا غياب بدائلها.
الجزائر: غياب الإطار التنظيمي للتحركات الاجتماعية
منذ ثمانينيات القرن العشرين، والجزائر تواجه تحركات اجتماعية عفوية تعكس حالة من الغضب والاستياء لدى الشباب المهمش، خاصةً في الأحياء الفقيرة، دون أن تتحول تلك التحركات إلى حركة منظمة قادرة على إرباك السلطة وإجبارها على تقديم تنازلات سياسية واجتماعية مهمة.
فعلى سبيل المثال، انتفاضة 5 يناير 2011، لم تتضمن مطالب واضحة وغلبت عليها أعمال العنف والتخريب؛ نظرًا لأن التنظيمات والأحزاب السياسية “وقفت متفرجة على الانتفاضة ولم تتجاوز سقف مساندتها التعبير الشفوي المحتشم عن مشروعية الأسباب التي دفعت بالشباب للنزول الى الشارع”[4]، فضلًا عن عدم تمكن تلك التنظيمات والأحزاب من إنتاج قيادة ميدانية قادرة على توجيه مثل تلك الانتفاضات.
الحركة الحقوقية تتدارك
في المملكة المغربية ساندت الحركة الحقوقية التحركات الاجتماعية عبر التنديد بقمع السلطة وصياغة البيانات والتقارير عن الأحداث وانتهاكات الأجهزة الأمنية. بينما أعتقد أن الحركة الحقوقية في الجمهورية التونسية كان لها دورًا أكبر في تحركات الحوض المنجمي؛ وهو ما يمكن إرجاعه إلى توجه بدأ قبل الانتفاضة بسنوات، يهدف إلى التأكيد على أهمية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على الساحة الحقوقية، بالإضافة للتقارب بين الحركتين النقابية والحقوقية.
التقارب بين الحركتين لم يبلغ أعلى السلم القيادي في كلاً من الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والاتحاد العام التونسي للشغل، إلا أنه تم التمرد على مبادئ الفصل بين الحقوق الاقتصادية والحقوق المدنية في كلتا المنظمتين حسب الاختصاص، بعدما كان الدفاع عن الحقوق الاقتصادية من اختصاص الاتحاد العام التونسي للشغل، بينما تولت الرابطة التونسية الدفاع عن الحقوق المدنية. هذا التمرد تمثل في خلق مساحات للعمل المشترك وخوض حملات مساندة للتحركات الاجتماعية، كمساندة اعتصامات عاملات النسيج 2003، دعم إضرابات الطلبة في 2005، وتكوين لجان حقوقية/نقابية لمساندة جمعية القضاة المعزولة والمحامين في2005. وغيرها من الخطوات في سبيل تكوين جبهة حقوقية/نقابية مارست دورًا مهمًا، ليس فقط خلال انتفاضة الحوض المنجمي، بل خلال سلسلة التحركات اللاحقة التي ستنتهي بانتفاضة 17 ديسمبر 2010، 14يناير 2011.
اللجنة الوطنية لمساندة أهالي الحوض المنجمي[5] كانت مثالًا للعمل المشترك بين النقابيين والحقوقيين، إذ ضمت اللجنة أكثر من عشرين حقوقيًا، بينهم محامين ونقابيين ناشطين في الدفاع عن الحريات، بالإضافة إلى مجموعة من النقابيين القريبين من العمل الحقوقي. وكانت مهمة تلك اللجنة الأساسية هي كسر الحصار الإعلامي المفروض على الانتفاضة ثم على المساجين وعائلاتهم، ومساعدة العائلات عبر تكليف محامين متطوعين للدفاع، ورصد الانتهاكات خلال المحاكمات وتدوين وفضح حالات التعذيب وانتزاع الاعترافات. كما استدعت اللجنة مراقبين خارجيين من دول مغاربية وأوروبية لحضور المحاكمات والشهادة على عدم توفر شروط المحاكمة العادلة، كذا قام أعضاؤها بزيارات إلى نقابات أجنبية طلبًا للمساندة.
لعبت اللجنة الوطنية لمساندة أهالي الحوض المنجمي أيضًا دورًا مهمًا في التقارب النقابي/الحقوقي، حيث ساهمت في تكوين لجان محلية لمساندة انتفاضة الحوض المنجمي في كل من جندوبة، تونس، القيروان، وبن عروس. وكان من بين مهامها، الضغط على قيادات الاتحاد العام التونسي للشغل في اتجاه فك ارتباطه مع السلطة.
كانت انتفاضة الحوض المنجمي التقاء بين ثلاث فاعلين سيمارسون دورًا حيويًا خلال ثورة 17 ديسمبر 2010 – 14يناير 2011، هؤلاء هم نقابيون خرجوا عن سيطرة القيادة النقابية، حقوقيون غيّروا مسار توجهاتهم الحقوقية للاهتمام بالمسائل الاجتماعية، ومحامون انخرطوا في النضال الاجتماعي. وأعتقد أن صدى الانتفاضة لم يكن مهمًا في تونس فحسب، بل في كل المنطقة المغاربية، بالإضافة إلى أوروبا التي لعب نشطاء الهجرة فيها دورًا حيويًا في حشد المساندة خارج تونس.[6]
الدرس من الانتفاضات المغاربية الأولى
كانت تحركات الحوض المنجمي وسيدي إفني مهمة باعتبار مغزاها المحلي ووقوفها ضد خيارات السلطة ورفضها لسياسات الأمر الواقع؛ فرغم كونها لم تصمد كثيرًا أمام عنف السلطة، وشراسة القمع الذي أدى إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى، إلا أنها حققت عدة إيجابيات، حيث ساهمت كلتا الانتفاضين في تآكل شرعية السلطة، وأحدثتا ثغرة مهمة في جدار الخوف، أداة الديكتاتوريات للمحافظة على السلم الاجتماعي، وفتحتا المجال أمام اندلاع انتفاضات أخرى في المستقبل، ولكن الأهم أن الانتفاضتين ساهمتا في التقريب بين الحركتين الحقوقية والنقابية من جهة والحركات الاجتماعية المحلية من جهة أخرى.
الحركة الحقوقية والحركات الاجتماعية: ”الماكرو حقوقي“ و”الميكرو حقوقي“
يرى الأستاذ محمد أو الطاهر، الباحث المغربي في سوسيولوجيا الدين والأنثروبولوجي، أن الانتفاضات التي شهدتها المنطقة العربية قد لعبت دورًا مهمًا في تغيير بنية الحركة الحقوقية في المغرب، حيث انتقلت هذه الحركة تحت وقع الثورات العربية من “الماكرو حقوقي” ببعده القانوني والهيكلي العام إلى “الميكرو حقوقي” الملتصق بحياة المواطن العادية واهتماماته وهمومه، وهو ما ساهم في توسيع دائرة “المجتمع المدني الحقوقي.”[7]
وهذا منطقي جدًا باعتبار ما أحدثته الانتفاضات العربية من أثر، بالإضافة إلى محاولات تكرارها في معظم دول المنطقة، فضلًا عن زيادة الاهتمام بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية. إلا أن التشبيك بين الحركة الحقوقية والحركات الاجتماعية في المنطقة قد حصل قبل ذلك بسنوات؛ وتعددت اللقاءات المغاربية التي جمعت بين الحركات الاجتماعية، النقابات، ومنظمات حقوق الإنسان. وكان المنتدى الاجتماعي المغاربي الذي انعقد بمدينة الجديدة المغربية بمشاركة أكثر من 2000 مشارك في يوليو 2008، على خلفية مساندة “الاحتجاجات في سيدي إفني وانتفاضة الحوض المنجمي والمضربين في الجزائر” بداية سلسلة من لقاءات مشتركة متعاقبة ضمن فعاليات التنسيقية المغاربية لمنظمات حقوق الإنسان.
الحراك الاجتماعي وغياب المشروع السياسي البديل [8]
أحدثت التحركات الاجتماعية تغييرًا مهمًا في هيكل السلطة بأجهزتها السياسية والإعلامية والأمنية، حيث استطاع مواطنون عاديون تحرير المجال العام، كما ساعدت في بناء تقارب جديد للحدود بين الحركة الاجتماعية (ببعدها النقابي المؤسسي وغير الرسمي)، والحركة الحقوقية؛ وهو ما ظهر في اللقاءات المشتركة داخل مساحات مغاربية جديدة، وهي لقاءات تسارعت وتيرتها بالتزامن مع تنامي الحركات الاحتجاجية التي تجاوزت بُعدها المحلي لتنتشر في كافة المنطقة المغاربية بين عامي 2008 و2010.
ويعتبر العديد من المحللين أن الثورات العربية جاءت تلبية لحاجة ضرورية للتغيير في منطقة شهدت استبدادًا لا مثيل له. ويرى الكاتب الفلسطيني “سمير الزبن” أنها ربما جاءت متأخرة بحكم اهتراء الأنظمة منذ زمن، وأنها جاءت كنتيجة لتحركات اجتماعية قادها شباب مهمش لا يحمل مشروعًا سياسيًا بديلاً خارج إطار الاحتجاج على الأنظمة. أي أن الثورات العربية جاءت خارج الأطر الحزبية التقليدية، فالأحزاب المعارضة الجدية “تعرضت إلى عملية إخصاء بفعل القمع”[9] من قِبل الأنظمة الاستبدادية. لكن بمجرد أن سقطت الأنظمة الحاكمة –مثلما في تونس– غادر الشباب/محرك الثورة الساحة السياسية؛ مما أفسح المجال أمام إعادة إنتاج أساليب النظام السابق، والذي بدوره أعاد الشباب إلى الساحات العامة للوقوف في وجه ألة القمع القديمة المتجددة.[10]
الحركات الاجتماعية والربيع العربي
ساهمت الحركات الاجتماعية الاحتجاجية في اندلاع الربيع العربي، وساعد الاندماج بين الحركة النقابية والحقوقية في تنظيم التحركات المختلفة من مسيرات وإضرابات واعتصامات، وبلورة الشعارات المطالبة بالحرية والعدالة الاجتماعية، والتي وجدت صداها لدى الشعوب الرازحة تحت نير الفقر والبطالة. وعرفت منطقة المغرب الكبير زخمًا كبيرًا انطلق منذ بداية القرن وانتهى بالثورة في تونس، بينما لم يتجاوز الأمر في الجزائر تقديم السلطة بعض التنازلات الاجتماعية المحدودة والسماح بنشاط بعض الأحزاب السياسية؛ وهو ما اعتبره البعض “رشوة مقنعة.” أما في المغرب فقد تم إصدار دستور2011، الذي اعتبر خيار “الدولة الديمقراطية التي يسودها الحق والعدل لا رجعة فيه.”
لم تكد حماسة الثورة تهدأ، حتى عادت الحركات الاجتماعية لتطالب بحق الجهات الداخلية المهمشة في التنمية والتشغيل، وبتوفير البنية التحتية. حيث فشلت الاحزاب الحاكمة في تغيير السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي اشتعلت ضدها الاحتجاجات التي عمّت المنطقة، بالإضافة إلى الإخفاق في استقطاب الشباب الغاضب الذي فقد الأمل في تحسين أوضاعه، ما أفقده الأمل في الفعل السياسي وأعاده إلى الشوارع.
لكن الملاحظة الأهم أن هذه الحركات الاجتماعية عادت في السنوات الأخيرة إلى صيغتها المحلية التي شكّلت بدايتها –ربما يعود ذلك إلى فقدان الأمل في إمكانية التغيير الجماعي– حيث لم تتجاوز المنطقة التي يقع فيها الحراك، كما لجأت إلى الأساليب التي استعملت قبيل الربيع العربي: الاعتصامات، الإضرابات، قطع الطرق، محاولات الانتحار الجماعي أحيانًا.[11] هذه المرة، لم يحظ الحراك بالقدر نفسه من الانتشار الذي شهدته انطلاقة الاحتجاجات القديمة من سيدي بوزيد أو الرباط في 2010 و2011،حيث عبرت الحركات الاجتماعية عن مطالب محلية، دون سند حقيقي، واقتصر الدعم الذي تتلقاه على بيانات وتقارير تصدرها منظمات المجتمع المدني.
من الريف إلى تطاوين مرورًا بغرداية: تقاطع مع الربيع العربي
عاش المغرب لمدة عامين متتالتين على وقع حراك الريف في شمال البلاد. وتباينت الآراء حول دوافع هذا الحراك. فهناك من يرجعه لأسباب تاريخية مرتبطة بتمرد عبد الكريم الخطابي في 1958-1959 وقيادته لانتفاضة المنطقة ضد دولة الاستقلال آنذاك، وهناك من يراه نتيجة لضعف النخب السياسية في المنطقة حيث لم تنجح محاولة الحكومة جعل ”الحسيمة“ منارة المتوسط، رغم تخصيص أموالًا ضخمة لذلك. لكن الأكيد أن المنطقة تشكو مشاكل اجتماعية مزمنة كارتفاع نسبة بطالة الشباب وتدهور البنية التحتية ونقص الخدمات الاجتماعية.
تشير ملابسات الحراك إلى استلهام أدوات الربيع العربي، ورغم استمرار الحراك لمدة طويلة، إلا أنه ظل حدثًا محليًا ولم يتجاوز حدود ولايات الريف، رغم أن الحراك يتمتع بخصائص مشتركة مع الاحتجاجات التي شهدتها مناطق مغاربية أخرى، مثل تطاوين بالجنوب التونسي والقصرين بالوسط الغربي التونسي 2016، ورقلة بجنوب الجزائر وغرداية 2014.
كل هذه الاحتجاجات تشترك في طابعها المحلي والسلمي، وأيضًا في رفضها لأي توظيف سياسي أو محاولة لصنع قيادات ميدانية جديدة، كما تكرس لنوع من الديمقراطية المباشرة وتطرح مطالبًا واضحة، وهو ما يدفع بالتساؤل عن مدى فعالية الأحزاب السياسية –الحاكمة والمعارضة– والمنظمات الحقوقية، ومدى تأثيرها في الحياة العامة، وقدرتها على صياغة البدائل.
خصائص الحركات الاحتجاجية بعد الربيع العربي
غياب الإطار التنظيمي والسياسي التقليدي هو الذي دفع بـ آصف بيات، أستاذ العلوم الاجتماعية بجامعة إلينوي بالولايات المتحدة الأمريكية إلى اعتبار التحركات التي جاءت بعد الربيع العربي بأنها “لا حركات” اجتماعية؛ بسبب افتقارها للتنظيم، وتمتعها بالعفوية، وعدم اعتناقها لأيديولوجية، فضلًا عن غياب القيادات التنظيمية، حيث يتولى قيادتها أشخاص عاديون ليس لهم فكر سياسي، يتوجهون نحو الفعل المباشر عوضًا عن التنظير. بينما تمتاز الحركات الاجتماعية في المجتمعات الغربية “بالتنظيم والاستدامة.”[12]
لكن في اعتقادي، أن الحركات الاجتماعية للصيغة التنظيمية التقليدية وتمتعها ببعض الخصوصية، لا يعني أنها تفتقر للإطار التنظيمي بشكل كامل، أو أنها عفوية إلى حد أن الناس يتحركون دون تنسيق. فسكان الريف الذين تواصلت تحركاتهم لسنتين متتاليتين يتمتعون بقدرة تنظيمية عالية، وقدرة تكتيكية على المواجهة، وكما كان الحال في الحوض المنجمي؛ أنتج الحراك قيادات جديدة قادرة على تسيير الحراك والحديث باسمه، بل والتحكم في مساره، وحازت هذه القيادات، التي أصبحت رموزًا، على ثقة من حولها.
لقد جاءت الحركات الاجتماعية الجديدة في واقع تراجع فيه تأثير الهياكل القديمة، من أحزاب سياسية ومجتمع مدني، وهي هياكل لم تستطع القيام بالتطوير اللازم وتغيير رؤيتها التقليدية في العمل، رغم تغيّر الواقع. كذا فكون تلك الحركات برجماتية إصلاحية، ترفض منطق الهياكل القديمة البيروقراطي أحيانًا، وترى أن تعقيدات عمل هذه الهياكل وصراعاتها وانقساماتها أحيانًا تؤثر سلبًا على مطالبها العاجلة؛ قد وجهها للعمل الميداني، وحدد مطالبها الإصلاحية وساعدها على ابتكار أساليب مواجهتها للسلطة.
تحديات أمام المجتمع المدني
تقوم منظمات المجتمع المدني بدور مهم في مساندة الحركات الاجتماعية المحلية، فهي تضطلع بالزيارات الميدانية التضامنية، وتوثق الشهادات وتسلط الضوء على التجاوزات الأمنية والقضائية، وأحيانًا تكلف محامين متطوعين للدفاع عن الضحايا، ومراقبين لتوثيق انتهاكات أسس المحاكمة العادلة، وقد تسعى بعض المنظمات للوساطة بين السلطة والمحتجين تفاديًا لتأجيج الاوضاع؛ مثلما حدث في الريف المغربي 2017، أو في وساطة الاتحاد العام التونسي للشغل مع معتصمي الكامور في الجنوب التونسي 2016.
لكن لم تنجح منظمات المجتمع المدني في تأسيس علاقة دائمة بالحركات الاحتجاجية، نظرًا لإدراك هذه الحركات أن دور المجتمع المدني وتأثيره في سلطة القرار يظل محدودًا، ولأن العلاقة مرتبطة بفترة الاحتجاجات؛ فبمجرد انتهاء الاحتجاج – سواء بحل الأزمة مثلما يحدث أحيانًا في تونس أو بقمع الاحتجاجات مثلما في الريف المغربي– يضعف التواصل.
محاولة المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية تجميع الحركات الاجتماعية في مؤتمرات سنوية؛ بهدف التشبيك وربط الصلة بينها وبين المنظمات الحقوقية حققت بعض النجاح. فقد خرج المؤتمر الوطني الأول الذي انعقد في مارس 2017 بتوصيات مهمة تُلزم الحركات الاجتماعية والمنظمات الحقوقية والنقابية بضرورة التنسيق والتشاور من أجل “دعم هذه الحركات” و”استكمال المسيرة لتحقيق أهداف الثورة” باعتبارها مهمة وطنية حيوية. كما كان “للتنسيقية الوطنية للحركات الاجتماعية” دور في الإعلام والتنسيق والتجميع. لكن تبقى المهمة صعبة، باعتبار أن لكل حركة اجتماعية مطالب خاصة بها، من التشغيل إلى المطالبة بالتنمية مرورًا بالاحتجاج على عدم الترسيم في العمل؛ لذلك يصعب إيجاد الخيط الرابط بينهم بما لا يعرقل إمكانيات التضامن المتبادل.