اقبل الطوفان :
طوق النجاة المتبقّي!
بقلم الصحفية أسماء سحبون
تونس/المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية
تزيد الازمة السياسية من تعقيدات الازمة الشاملة التي تعيشها تونس منذ سنوات. وتكاد تصرف النظر بشكل نهائي عن اي حلول منتظرة للخروج من الوضع التراجيدي الذي آلت اليه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. وأصبح ايضا بالإمكان اعتماد “نظرية التلقي” في فهم المشهدية الجديدة التي أفرزتها هذه الازمة السياسية. اذ تحولت مؤسسات سيادية الى مسرح فيه مشاهد عنف واستعراض قوة تستهدف المتلقي وتؤثر في بنيته النفسية والذهنية ويتفاعل معها الجمهور. وهكذا ننتقل بهذه الازمة السياسية من انتظار حلول للازمة الاقتصادية والاجتماعية الى صرف الأنظار بشكل نهائي عنها وبروز مخاوف حقيقية من ان يكون لهذه الازمة تداعيات سلبية على السلم الاجتماعي في إطار “نظرية التلقي”.
مشهدية جانفي
اربما كان من الصعب على الكثيرين وخاصة من هم في السلطة هضم الاحتجاجات التي عاشتها تونس منتصف جانفي الماضي وعلى مدى خمسة ايام. فهي لم تكن متوقعة بالنسبة لمن فاته فهم وتشخيص واقع الأوضاع المعيشية للتونسيين خاصة وان تلك الاحتجاجات لم ترفع شعارات ولم تقدها وجوه سياسية او اجتماعية مألوفة. وكان من السهل إذن على احزاب السلطة اعتبار تلك الاحتجاجات الليليلة الغاضبة ضربا من ضروب التآمر عليها فتم وصمها وتشويهها وسماها رئيس البرلمان راشد الغنوشي باحتجاجات الحرق وتصدّى لها رئيس الحكومة هشام المشيشي بالعصا الأمنية الغليظة وبالإيقافات العشوائية ليطال الإعتقال حوالي ألفيْ محتج اغلبهم قصر ومراهقين والكثير منهم تعرض لسوء المعاملة وللتعذيب وللانتهاك. وهكذا تعرض تلك الفئات الهشة الغاضبة الى معلمتين مظلمة اولى هي حرمانه من حقوقهم الدستورية في الشغل والماء والحق في العدالة الاجتماعية والمعلمة الثانية هي تجريم مطالبتهم بتلك الحقوق وملاحقهتم قانونيا. وربما تتناسى السلطة ان التجريم والمحاكمات لم تكن يوما حلا لاخماد الحراك الاجتماعي بل هي ايضا قادح مهم يزيد من تاجيج الاحتقان وقد يولّد التصادم اثناء الهزات الاجتماعية وقد حصل ذلك خلال منتصف جانفي الماضي.
استعود تلك الاحتجاجات مجددا ورغم صعوبة تحديد الزمن الاحتجاجي الا اننا نستطيع رسم ملامح هذا الاحتجاج القادم : ستكون احتجاجات غير تقليدية لا تفرق بين السياسيين وايضا لا تتفاعل مع النشطاء وتجرّم الكل وتتحرش بالكل وتتهدد السلم الاجتماعي وتراهن على التصعيد. وقد كانت احتجاجات جانفي، غير المتوقعة بالنسبة للكثيرين، ملمحا من ملامح حراك اجتماعي جديد بدأ يتشكل وتطغى عليه أشكال احتجاجية جديدة سقفها الذهاب نحو الأقصى. هذا تقدير لانفجار اجتماعي متوقع منذ سنوات وتوفّر له اليوم القادح الا وهو العنف داخل المؤسسات السيادية وعنف الخطاب بين السياسيين والتغييب الكُلِّي للنقاش حول الازمة الاقتصادية والاجتماعية بعد ان فاضت كل المنابر بالمناوشات السياسية والدستورية وبعد ان تسرب العنف وخطاب الكراهية وخطاب الفرز وايضا المناوشات بالأيادي الى المشهد السياسي والى المسرح الكبير الذي يتابعه جمهور التونسيين عبر كل المنصات، منصات الميديا التقليدية والاجتماعية ويتفاعلون معه.
الطوفان قادم وسيأخذك ايضا
مؤشرات عديدة يمكن اعتمادها في فهم وتحليل حالة الاحتقان الاجتماعي التي رافقت الانتقال الديمقراطي وتفاقمت خلال السنوات الاخيرة وبدأت تعرف تحولات تتجه نحو التصعيد والذهاب للاقصى. فمنذ انطلاق نشاط المرصد الاجتماعي التونسي صلب المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية لرصد وتوثيق الاحتجاجات الاجتماعية غير المؤطرة من قبل احزاب ومنظمات، في إطار مناصرة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمهمّشين، اتضح ان احتجاجات من هم خارج دائرة الضوء يقدر معدلها السنوي بحوالي 8 آلاف احتجاج في مختلف المناطق التونسية. بل ان قاعدة بيانات المرصد أفرزت منذ ست سنوات خارطة واضحة المعالم لمناطق الاحتجاج ولمطالب المحتجين وايضا للأشكال الاحتجاجية المتنوعة التي خاضها المحتجون ولم تلاقي التفاعل من قبل السلطات محليا وجهويا ومركزيا. هؤلاء، اصحاب المطالب الاقتصادية والاجتماعية وكل المطالب العادلة، خاضوا اعتصامات ونفذوا وقفات احتجاجية وهددوا بالانتحار الجماعي وأوقفوا أنشطة وأغلقوا طرقات وخاطوا افواههم وساروا على الأقدام في اتجاه العاصمة كمركز قرار وابتكروا أشكال احتجاجية بعضها طريف مثل إسناد جائزة افشل حكومة في مشهد احتفالي ودفن جثمان التشغيل في مشهد جنائزي وتشكيل سلاسل بنسخ من الشهائد الجامعية للمعطلين ومراسلة الرئاسة الفرنسية وغيرها من الاشكال الاحتجاجية. في الأثناء بدأت تتشكل تنسيقيات وقيادات داخل تلك الحركات الاجتماعية واكتسب الفاعل الاجتماعي ثقافة في كيفية تقديم مطلبه والذي لا يتوقف عند تقديم المطلب بل نحو تقديم مقترحات حلول. ونجح اعتصام هرمنا في قيادة عصيان مدني سلمي في مدينة المكناسي طيلة شهر (ديسمبر 2016) دون ان تبرز اي مظاهر عنف او تمرد في تلك المناطق الغاضبة. في المقابل لم تطور السلطة آلياتها في التعاطي مع تلك الاحتجاجات والحركات الاجتماعية وتوقف الامر عند الحل الأمني اولا وفِي اقصى الحالات الى توقيع اتفاقيات لا تمر الى التنفيذ وتكون القادح لولادة حراك اجتماعي جديد.
الى هنا انتهى المشهد الاجتماعي حيث تحتفظ السلطة بآلياتها التقليدية في التصدي للحركات الاجتماعية من ذلك التجريم والمحاكمات والتشويه والوصم وغياب اي خطة اتصالية للتهدئة والتفاعل وفِي المقابل ساد اليأس من الترقب والانتظار في صفوف اصحاب المطالب. وإذا ما اضفنا الى هذا القهر الاجتماعي عنف المشهد السياسي الذي تعيشه تونس اليوم نستطيع القول ان الانفجار الاجتماعي قادم وسيأتي على رؤوس الجميع لانه منطقيا إفراز سليم لسوء ادارة الازمة الشاملة التي تعيشها البلاد والتي انتهت الى الفردانية في الحياة السياسية : أنا وبعدي الطوفان ! ولكن الطوفان قادم وسيأخذك أيضا !
الحوار لتفادي الانتكاسة
لا حلّ لتفادي هذا الطوفان سوى إنهاء حالة التوحش السياسي التي باتت تعيشها البلاد في ظل صراعات لا تحتكم إلى المقارعة بالبدائل والحلول لازمة جوع وتهميش مسّت تقريبا الجميع خاصة مع تعميق جائحة كورونا للازمة الاقتصادية والاجتماعية المعقدة. وإنهاء حالة التوحش السياسي تكون أساسا بالحوار دون اي إقصاء فالحوار جُعِلَ ليتفاوض المختلفون والمتصارعون وليس جُعِلَ ليتفاوض المتشابهون. هذا الحوار يجب ان يكون منطلقه التشخيص الواقعي للازمة الاقتصادية والاجتماعية والاوضاع المعيشية المهينة التي باتت ترتهن شرائح واسعة من التونسيين. لان الحوار الذي يقتصر على الجانب السياسي هو حوار محاصرة وترضيات ولن يكون حلاّ للازمة المعقدة والشاملة التي تعيشها البلاد. اما الحوار الذي يطرح بدائل عاجلة واُخرى استراتيجية لكيفية إصلاح الأوضاع المعيشية للتونسيين سيكون فعالا ويلاقي صداه في الشارع ويستطيع ان يساعد على التهدئة الاجتماعية. كما يجب أن يتضمن هذا الحوار ضمانات تطبيق مخرجاته حتى لا يكون حوارا على شاكلة اتفاقيات كثيرة وقعتها الحكومات ولم تلتزم بها فتولد عن ذلك احتقان جديد. غير ذلك سيستمر الاحتقان الاجتماعي ويستمر معه التباعد بين الشارع والنخبة السياسية وأولى تداعيات هذا الامر الاحجام النهائي عن المشاركة في الانتخابات مبكرة كانت او في موعدها. وثاني هذه التداعيات استمرار التصعيد في الاشكال الاحتجاجية وذهابها نحو الأقصى بما يتماشى وحالة العنف السياسي المنثور في كل المنابر.
تحتاج تونس اكثر من اي وقت مضى الى حوار حقيقي يشخص مختلف الأوضاع في البلاد تشخيصا واقعيا خاليا من اي مصلحة حزبية وغير خاضع لنزعة الفردانية التي بدأت تسيطر على المشهد. فالحوار بين الفرقاء على قاعدة الالتزام بمبادئ الجمهورية الثانية، واساسها العدالة الاجتماعية والمساواة والتوزيع العادل للثروات وتغيير المنوال التنموي الذي ثار ضده الناس قبل 10 سنوات لمحدودية قدرته على توفير التشغيل وتوفير الرخاء للناس ووضع حد للمظالم التنموية التي تتعرض لها مناطق العمق التونسي، هو الحل الممكن لتفادي انفجار اجتماعي قادم لن يفرق بين من هو في الحكم ومن هو في المعارضة، انفجار اجتماعي يتهدد السلم الاجتماعي ويعرض المسار الانتقالي الى انتكاسة. فالطوفان حين أتى، وفقا للحكايات الدينية والاساطير التاريخية والتراث الشعبي، فصل بين حضارتين : حضارة ما قبل الطوفان وقد اندثرت واختفت وحضارة ما بعد الطوفان والنجاة. وحتى لا يحصل هذا الطوفان نحتاج إلى ترشيد العقل السياسي اعتمادا على قاعدة ان المسار الذي نعيشه كان نتيجة لحراك اجتماعي انهى منظومة سياسية واملا في القطيعة مع سياسات اقتصادية واجتماعيةومنوال تنموي لا ينتج سوى فقرا وتهميشا وفسادا. وهو ذات الحراك الذي يستمر اليوم ويتهدد عرش لوبيات الفساد ويلقي بطوق النجاة للمؤمنين بدولة المساواة والعدالة الاجتماعية