شاحنات اللاعودة: التنقل على إيقاع الموت وصمت الدولة المخزي
حياة العطار
المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية
مقال محيّن الارقام
وسط اصوات المحتجين على الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية واصوات المنتقدين لسياسات الدولة وفشل الحكومة في ادارة الأزمة وضعف اداءها في مجابهة كارثة كوفيد-19 واصوات المنددين بالعنف المسلط على الشباب وعلى النساء في الفضاءات الخاصة والعامة وتحت قبة البرلمان، يغيب كالعادة صوت اكثر الفئات غبنا وتهميشا وتنقطع اخباره الا من عناوين الحوادث واحصائيات ضحايا الشاحنات. عاملات القطاع الفلاحي اللاتي لا يعرفن للاحتجاج طريقا ولا تعنيهنّ خطابات السياسيين والحكام ولا وعودهم لهن. رغم ثقل حملهن وعظم الدور الذي تضطلعن به في كل المراحل والأزمات والظروف الاستثنائية التي تمر بها بلادنا وأبرزها جائحة كوفيد-19 اين كانت في الصف الأول في حلقة الانتاج وفي معركة الأمن الغذائي. تجد كل واحدة منهن تعمل بنفس النسق وبلا هوادة تركب الشاحنة في اتجاه الحقول لا فرق عندهن بين سياق وآخر ولا بين حكومة وأخرى ولا تأبهن لقرارات ولا لبروتوكولات. لا تخشى الواحدة منهن الاوبئة غير وباء الفقر والبطالة فالجوع والحاجة وقلة ذات اليد أخطر عندهن من الفيروس نفسه سيما وأنهن في دولة لا تعيرهن اهتماما ولا تحسبهن ضمن مخططاتها وبرامجها. دولة يعاني مواطنوها الفقر والجوع والتهميش والمرض والقمع ومصادرة الحقوق والحريات. وكغيرها من الفئات الاجتماعية الهشة تخلّت عنها الدولة وتركتها تواجه مصيرها بين فكّي الوباء والجوع.
ويتواصل المشهد اليومي للعاملات وهن يركبن الشاحنات على مرأى ومسمع من الجميع وتتالى الحوادث وتتصاعد الارقام في المدة الاخيرة لتتوزع ضحايا شاحنات اللاعودة بين ميتة وجريحة ومكسورة الأطراف. في المقابل تواصل الحكومة صمتها وتجاهلها وكأنها أَلِفَت المشهد وتعودت به فأصبحت تتعاطى مع المآسي بالتطبيع مع الموت والتعايش مع الكوارث.
لقد سجلنا في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية خلال السنوات الست الاخيرة بين 2015 و2021 عدد 46 حادثا لشاحنات ناقلة لعاملات في الفلاحة خلفت 652 جريحة (بخطورة متفاوتة) و47 حالة وفاة. منها 39 جريحة و6 وفيات سنة 2020 و101 جريحة وحالة وفاة واحدة الى حدود يوم 19 جويلية 2021 وتتصدر ولايات الوسط الغربي خاصة سيدي بوزيد والقيروان المراتب الأولى من حيث عدد الحوادث وعدد الضحايا بنسبة26% لكل منهما اي ما يقابل52% من مجموع الحوادث، الأمر الذي يفسَّر بتدهور البنية التحتية في هذه الجهات الى جانب الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية وارتفاع نسب الفقر والبطالة وشعور الغبن والحرمان المستمر من الموارد والقدرات وانعدام فرص التمتع بمستوى معيشي لائق وبأبسط اساسيات الحياة وحالة اللاأمان واللاإستقرار الذي يدفع نساء هذه الجهات الى العمل في الحقول وركوب المخاطر وتحدي الوباء في انتظار حلول جادة تغير من واقعهن وتحفظ كرامتهن.
رغم خطورة الوضع الوبائي وسرعة انتشار العدوى في المدة الأخيرة ورغم إقرار الحجر الشامل في عدة ولايات تواصلت الحوادث حيث سجلنا في جهة القيروان حادث انقلاب شاحنة أصيبت خلاله 12 عاملة. جد الحادث يوم 24 جوان 2021 أي تزامنا مع الحجر الصحي الشامل بالجهة. تمرّد هذه الفئة على الوضع الوبائي وعلى القرارات الحكومية يعكس فشل الحكومة والسلط الجهوية في إدارة الازمة وإسقاطها لقرارات لم تأخذ بعين الاعتبار وضعية الفئات الاجتماعية الهشة ولم تخصّها بإجراءات تساعدها على تخطي الازمة. الشيء الذي عمق لديها شعور الخوف والقلق على قوتها وقوت ابناءها. فخرجت واستمرت بالعمل بإمكانياتها البسيطة والمحدودة للتوقي من الفيروس. إلا ان التنقل في الشاحنة ليس له بديل كما لا يعترف بالتباعد الجسدي ولا حتى بالجلوس الى حين الوصول الى الحقل. والنتيجة جثث ملقاة على الاسفلت تنتظر انتشالها وإسعافها لتنطلق في رحلة خوف أخرى تأخذها من الخوف من اهوال الطريق الى الخوف من عدوى تفشت داخل مستشفيات الجهة وخرجت عن السيطرة.
الملاحظ أيضا أن عملية نقل النساء في الشاحنات مستمرة رغم وجود القانون عدد 51 لسنة 2019 المتعلق بإحداث صنف نقل العملة والعاملات في القطاع الفلاحي والذي دخل حيّز التنفيذ منذ اكثر من سنتين وما تواصل الحوادث وتكرّرها إلا دليل على:
أولا: انعدام الإرادة السياسية في تطبيق القانون وغياب استراتيجية واضحة تحدد المسؤوليات وتركز الآليات اللازمة لتطبيقه وتسهّل عملية النفاذ اليه من قبل الفئات المعنية به. الى جانب ضبابية الرؤية لدى مختلف المتدخلين في تطبيقه. فالمشرّع اكتفى بسن القانون والحكومة وضعت الاوامر التطبيقية وتنصلت من مهامها فاكتفت بالجانب الأمني في فرضه على الفئات الهشة ولم توفر الامكانيات المالية والحوافز الجبائية لتسهيل تطبيقه وتركت للوزارات المتدخلة فيه كل يلقي المسؤولية على الآخر. وهو ما يقوي انعدام الثقة في تفعيله والالتزام به من قبل الحكومة خاصة في ظل الجدل السياسي القائم وصراع السلطات الثلاثة الذي لا يقدم حلولا جدية لمشاكل الشعب بقدر ما يعمّق الهوّة بينه وبين الطبقة السياسية ويقوي الانقسامات داخله.
ثانيا: ان التشريعات وحدها لا تكفي لمعالجة قضايا وإشكاليات متعددة الأبعاد عواملها ومسبباتها ضاربة في العمق لم تحضى بفهم المشرّع ولم تستوعبها القوانين. فعندما لا تقع دراسة طبيعة كل فئة وخصوصياتها وديناميكية المجتمعات التي ينتمون لها تصطدم القوانين بواقع يحول دون تطبيقها. فربما كان من الاجدر قبل سن القوانين فهم هذه الفئات والتصاق اكثر بواقعهم المعيش والاقتراب من همومهم وتساؤلاتهم وتطلعاتهم وتشريكهم في التخطيط والتفكير. وحتى نؤكد هذه الفكرة نذكّر بحركة احتجاجية قامت بها مجموعة من النساء العاملات في القطاع الفلاحي أصيلات معتمديتي كندار والنفيضة على إثر منع الوحدات الأمنية أصحاب الشاحنات من نقل الفلاحّات بصفة عشوائية تطبيقا للقانون عدد 51. احتجاج جاء كردّ فعل على ما اعتبرنه قطع لأرزاقهن وأرزاق أصحاب الشاحنات الذين تربطهن بهم علاقات مختلفة اجتماعية وأسرية وغالبا منفعية. اذ يعتبر صاحب الشاحنة الوسيط بين العاملات والمشغّل والضامن لاستمرارهن في العمل فتجد أول المساندين لهم هن الضحايا نفسهن.
كما يعتبر أصحاب الشاحنات ان شروط النقل التي وردت في القانون وحدّدت بأمر حكومي صادر في 31 أوت 2020 هي شروط تعجيزية وغير قابلة للتطبيق تثقل كاهل الطرفين دون ان تساهم في تحسين ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية. هنا لا بد من قراءة هذه الحادثة وفهم مقاصدها وتفسير دواعيها وتفكيكها من اجل اعتماد مقاربة سوسيولوجية في وضع القوانين حتى لا تكون مسقطة اسقاطا وحتى لا تكون الحلول الأمنية فقط هي السبيل الوحيد لتطبيق القانون ومعالجة المشاكل.
ثالثا: لا يمكن معالجة قضية نقل العاملات والتصدي للحوادث دون معالجة حقيقية وجذرية للقضايا الاقتصادية والاجتماعية، ودون رؤية تنموية تكرس التوازن بين الجهات وتقضي على الفقر والتهميش والبطالة. كما لا يمكن الحديث عن حقوق عاملات القطاع الفلاحي دون معالجة مشاكل القطاع ذاته وإعطائه الأولوية بالنظر الى أهميته ودوره في الاقتصاد الوطني، حيث يساهم بحوالي 10% من الناتج الداخلي الخام، و11% في الصادرات التونسية، ويشغّل قرابة 15% من اليد العاملة النشيطة، وجب اذن انتشاله من حالة الانهيار التي يشهدها منذ سنوات، ودعم صغار الفلاحين وتقليص الفوارق بينهم وبين كبار الفلاحين وإسنادهم بالتشريعات التي تضمن صمودهم ونهوضهم بالقطاع. وتمكين النساء من فرص الاستثمار في القطاع الفلاحي من خلال تعزيز قدرتهن على ملكية الأراضي وتمييزهن إيجابيا ودعم انخراطهن في الدورة الاقتصادية. ولا ننسى طبعا ضرورة تنظيم العمل الموسمي للنساء العاملات في الحقول وفي المستغلات الصغرى بما يتلاءم وشروط العمل اللائق على غرار حقهن في الضمان الاجتماعي وفي التغطية الصحية والأجر اللائق، سيما وان الفلاحة تعتمد بدرجة أولى على قوة اليد العاملة النسائية وتستوعب قرابة النصف مليون امرأة أي ما يعادل 80% من اليد العاملة في القطاع. إجراءات وتوصيات أكد عليها المنتدى في دراسة بعنوان “المستغلات الفلاحية الصغرى في تونس” انجزها في اطار مشروع “الحد من عدم المساواة في سلسلة قيمة زيت الزيتون” الذي تنفذه أوكسفام بالشراكة الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، جمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية، الاتحاد العام التونسي للشغل والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والذي يهدف الى المساهمة في الحد من الهشاشة الاقتصادية للعاملات الفلاحيات وصغار الفلاحين من خلال توجيه الاولوية السياسية نحو تنظيم العمل الموسمي وفقا لمعايير العمل اللائق.
ختاما لقد تأكد ان العاملات في القطاع الفلاحي لا يستطعن افتكاك حقوقهن وأخذها بمعزل عن حقوق النساء عامة التي لم تتعد مجرد الإجراءات والقوانين والشعارات ولا تلقى في اغلبها طريقا للتطبيق في مجتمع يستبطن أفكارا تمييزية تكرس العنف ضد النساء ويمارسه في كل الفضاءات حتى باتت مشاهد تعنيف النساء على مرأى ومسمع كل السلطات والحكومات التي تعاقبت. مشاهد عرّت نفاق طبقة سياسية جعلت من حقوق النساء والمساواة ومناهضة العنف ضدّهن مجرد قاطرة تمر عليها الى كراسي الحكم وتلقي بها في الرفوف.
التقصير والتخاذل وصمت السلطات ينهِك النساء ويقتل العاملات فوق قتلهن بالشاحنات.